وَامْتنع من الطَّعَام وَالشرَاب مَضَت أُمّه إِلَى ليلى فَقَالَت لَهَا: يَا هَذِهِ، قَدْ لحق ابْني بسببك مَا قَدْ علمت فَلَو صرت معي إِلَيْهِ رَجَوْت أَن يثوب لُبُّهُ ويرجَع عقلُه إِذا عاينك، فَقَالَت لَهَا: أما نَهَارا فَلَا أقدر عَلَى ذَلِكَ لِأَنِّي لَا آمن الحيَّ عَلَى نَفسِي، وَلَكِن أمضي مَعَك لَيْلًا، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل صَارَت إِلَيْهِ فَقَالَت لَهُ: يَا قَيْس إِن أُمَّك تزْعم أَن عقلك زَالَ بسببي، وَأَن الَّذِي لحقك أَنَا أصلُه، فَفتح عَيْنَيْهِ فَنظر إِلَيْهَا وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قَالَتْ جُنِنْتَ عَلَى ذِكْرِي فقلتُ لَهَا ... الحبُّ أعظمُ مِمَّا بالمجانين
الحبُّ لَيْسَ يُفِيقُ الدَّهْرَ صاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصرعُ المجنونُ فِي الْحِين
حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن إِسْحَاق عَن أَبِيه إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي قَالَ: بَينا أَنا جَالس مَعَ الرشيد على الْمَائِدَة إِذْ دخل الْحَاجِب فَأعلمهُ أَن بِالْبَابِ أَعْرَابِيًا مَعَه نصيحة، فَأمر بإحضاره، فَلَمَّا دخل أمره بِالْجُلُوسِ على الْمَائِدَة فَفعل، وَكَانَ مَعَه صباحة وفصاحة، فَلَمَّا تمّ الْغَدَاء وَرفعت الموائد وَجَاء الْغسْل غسل يَده، ثُمَّ أَمر بِالشرابِ فأحضر، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا حالتي فِي اللبَاس، فَاسْتحْسن هَارُون ذَلِك من فعله وَأمر بِثِيَاب حسنةٍ فطرحت عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَعْرَابِي من أَيْن؟ قَالَ: من الْكُوفَة قَالَ: أَعْرَابِي أم مولى؟ قَالَ: بل عربين قَالَ: فَمَا الَّذِي قصد بك إِلَيْنَا وَمَا نصيحتك؟ قَالَ: قصد بِي إِلَيْك قلَّة المَال وَكَثْرَة الْعِيَال، وَأما نصيحتي فَإِنِّي علمت أَنِّي لَا أصل إِلَيْك إِلَّا بهَا، قَالَ: فَأخذ إِسْحَاق الْعود فغني صَوتا يشتهيه الرشيد ويطرب عَلَيْهِ وَهُوَ:
لَيْسَ لي شَافِع إِلَيّ؟ ... ك سوى الدمع يشفع
عِشْت بعدِي ومت قب؟ ... لَك هَل فِيك مطمع
قسم الْحبّ خَمْسَة ... صَار لي مِنْهُ أَربع
فَإلَى الله أشتكي ... كبدا لي تقطع
فَقَالَ الرشيد كالمازح: كَيفَ ترى هَذَا يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: بئس وَالله مَا غنى، فَغَضب من ذلكهارون وصعب عَلَيْهِ، قَالَ إِسْحَاق: وَسقط فِي يَدي، فَقَالَ هَارُون: ويكل يَا أَعْرَابِي، وَهل يكون شَيْء أحسن من هَذَا؟ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قولي حَيْثُ أَقُول:
لَا وحبيك لَا أصا ... فح بالدمع مدمعا
من بَكَى شجوه استرا ... ح وإنكان موجعا
كَبِدِي فِي هَوَاك أس؟ ... قُم من أَن تقطعا
لم تدع سُورَة الْهوى ... للبلى فِي مطما