مَسْجِدا مرتفعًا فَقلت: هَذَا مَسْجِد قوم سراةٍ، وَحَضَرت الْمغرب فَصَعدت الْمَسْجِد فَمَا لَبِثت أَن جَاءَ الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام وَصليت، وَانْصَرف النَّاس وأقمت مَكَاني إِلَى أَن رَجَعَ الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام، وَصليت وَانْصَرف النَّاس وأقمت مَكَاني إِلَى أَن رَجَعَ الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام، وَصليت مَعَ النَّاس على تعبٍ وجوع، وَانْصَرف النَّاس وَبَقِي رجل يُصَلِّي مَلِيًّا وَخَلفه جمَاعَة من الخدم والفحولة ينتظرونه، فَلَمَّا فرغ من صلَاته انْصَرف إِلَيّ بِبدنِهِ كُله فَقَالَ: أحسبك غَرِيبا، قلت: أجل، قَالَ: مَتى كنت بِهَذِهِ الْمَدِينَة؟ قلت: آنِفا دَخَلتهَا، وَلَيْسَ لي بهَا معرفَة، وَلَيْسَت صناعتي من الصَّنَائِع الَّتِي يمت بهَا إِلَى أهل الْخَيْر، قَالَ: وَمَا صناعتك؟ قلت: الْغناء، فَوَثَبَ مبادرًا ووكل بِي رجلا، فَقلت للْمُوكل بِي: من هَذَا؟ قَالَ: أوما تعرفه؟ هَذَا سَلام الأبرش قَالَ: وَإِذا رَسُول قد جَاءَ فِي طلبي ثُمَّ مشينا حَتَّى انْتهى بِي إِلَى قصرٍ من قُصُور الْخلَافَة وَجعل يُجَاوز بِي مَقْصُورَة بعد مقصورةٍ إِلَى أَن دَخَلنَا مَقْصُورَة فِي آخر الدهليز، فَدَعَا لي بِالطَّعَامِ، فَأتيت بمائدةٍ عَلَيْهَا من كل شَيْء، فَأَقْبَلت على أكلي حَتَّى تراجعت إِلَى نَفسِي، وَسمعت ركضًا فِي الدهليز، فَإِذا إِنْسَان يَقُول: أَيْن الرجل، أَيْن الرجل؟ فَقيل: هَا هُوَ ذَا، فَقَالَ يدعى لَهُ بغسول وَطيب وخلعةٍ، فغلفت وخلع عَليّ وَأخذ الرجل بيَدي فَحَمَلَنِي على دابةٍ وأتى بْن منزل الْخَلِيفَة فاستدللت على ذَلِك بالحرس وَالتَّكْبِير والنيران، فَمَا زَالَ يدخلني من دَار إِلَى دَار إِلَى أَن دخلت إِلَى دارٍ قوراء وَإِذا فِيهَا أسرة مُضَاف بَعْضهَا إِلَى بعض، فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَى الأسرة أَمرنِي بالصعود فَصَعدت، وَإِذا رجل جَالس على يَمِينه ثَلَاث جوارٍ فِي حجورهن العيدان، وَإِذا فِي حجر الرجل عود فَسلمت فَرَحَّبَ بِي وَأَمرَنِي بِالْجُلُوسِ فَجَلَست، وَإِذا مجَالِس خَالِيَة قد كَانَ فِيهَا قوم فَقَامُوا عَنْهَا، فَمَا لَبِثت أَن خرج خَادِم من وَرَاء السّتْر فَقَالَ للرجل: تغنه، فَانْدفع يُغني بصوتٍ لي يَقُول فِيهِ:

لم تمش ميلًا وَلم تركب على جملٍ ... وَلم تَرَ الشَّمْس إِلَّا دونهَا الكلل

تمشي الهوينا كَأَن الشوك يحبسها ... مشي اليعافير فِي جيئاتها الوجل

فو الله مَا أحسن الْغناء، وَلَقَد غنى بِغَيْر إصابةٍ وأوتارٍ متنافرة ودساتين مختلفةٍ، ثمَّ عَاد ذَلِك الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الَّتِي تلِي الرجل فَقَالَ لَهَا: تغني فانبعثت تغني بِصَوْت لي كَانَت فِيهِ أحسن حَالا من الرجل تَقول فِيهِ:

يَا دَار أضحت خلاء لَا أنيس بهَا ... إِلَّا الظباء وَإِلَّا الناشط الْفَرد

أَيْن الَّذين إِذا مَا زرتهم جذلوا ... وطار عَن قلبِي التشواق والكمد

ثمَّ عَاد الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الثَّانِي فَقَالَ لَهَا: تغني فانبعث تغني بِصَوْت حكم الْوَادي تَقول فِيهِ:

فو الله مَا أَدْرِي أيغلبني الْهوى ... إِذا جد وَشك الْبَين أم أَنا غالبه

فَإِن أستطع أغلب وَإِن يغلب الْهوى ... فَفِي دون مَا لاقيت يغلب صَاحبه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015