متربٌ، قَالَ: فَمِنَ السَّحَاةِ، قُلْتُ: يَا غُلامُ اسْحِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَهُوَ مَاذَا؟ قُلْتُ: كِتَابٌ مُسْحًى، قَالَ: الطِّينُ، قُلْتُ: يَا غُلامُ طِنِ الْكِتَابَ، وَأَطِنِ الْكِتَابَ، قَالَ: فَهُوَ مَاذَا؟ قُلْتُ: مطينٌ وَمُطَانٌ، قَالَ: يَا غُلام أَتْرِبْ وَاسْحِ وَطن الْكتاب، ثُمَّ قَالَ امْضِ إِلَى الفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَمَضَيْتُ فَأَوْصَلْتُهُ، فَقَالَ: بِمَ اسْتَأْهَلْتَ أَنْ يَأْمُرَ لَكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؟ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ عَلَى جِهَتِهِ، فَقَالَ: لَحَّنْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْتُ: مَا لُحِّنَ، وَإِنَّمَا لَحَّنَ هُشَيْمٌ، فَتَبِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلْفَاظَهُ، فَأَمَرَ لِي بِأَرْبَعِينَ ألفٍ أُخْرَى مِنْ عِنْدِهِ، وَانْصَرَفْتُ بِكَلِمَةٍ أَفَادُوهَا بِتِسْعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: قَدْ كَانَ من مضى من الْعلمَاء وَأهل الْفَضْل من الأدباء، تَمَسُّهم الْفَاقَة، وتنالهم الْعسرَة وَالْإِضَافَة، ثُمّ يصلونَ من الْخُلَفَاء، والسادة الرؤساء، بِيَسِير مَا عِنْدهم من الْعلم وَالْحكمَة، وَالْأَدب والمعرفة، إِلَى الحَظِّ الخطير، والوفر الْكَبِير، والنَّضْرُ بْن شُمَيْل مِمَّن اتّفق لَهُ ذَلِكَ بعد شدَّة عَظِيمَة لحقته، وفاقة مُجْحِفة لَزِمته، وَكَانَ أحد الْأَعْلَام مِمَّنْ أَخَذَ عَنِ الْخَلِيل علم الْعَرَبيَّة، وَلَهُ من رِوَايَة السُّنَنِ والْآثَار، وَالْأَحَادِيث وَالْأَخْبَار، مَنْزِلَته وَلما أضَرَّ بِهِ إيطان البَصْرَةِ، ونَبَتْ بهَا عَنْهُ الْمَعيشَة، شرع فِي الظَّعْن عَنْهَا، فَذكر فِيمَا رُوِيَ لنا عَنْهُ من طَرِيق لَمْ يحضرني فِي هَذَا الْوَقْت، ولعلِّي أوردهُ إِذا عثرتُ عَلَيْهِ بعد، أَنَّهُ تَبِعَهُ سبع مائَة رَجُل أَو نحوهم من أَصْحَابه يشيعونه، وَجعلُوا يَبْكُونَ توجعًا لمفارقته إيَّاهُم، وَأظْهر لَهُم نَحْو هَذَا من استيحاشه وكراهته النأي عَلَيْهَا عَنْهُمْ، وقَالَ: لَو كَانَ لي فِي كُلّ يومٍ رُبْعٌ من الباقِلَّى أَتَقَوتُه لما ظَعَنْتُ، قَالَ الرَّاوِي: فعجبتُ من أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْجمع الْكثير من المتفجِّعين لفقده من يَكْفِيهِ هَذَا الْقدر، وَيقوم لَهُ بِهِ، ثُمّ إنَّه أَتَى خُرَاسَان فاستغنى وأثرى بِمَا أسدَى إِلَيْهِ الْمَأْمُون لما وصل إِلَيْهِ وسَمِع كَلَامه، ووقف عَلَى أدبه، وَلَقَد ظهر من الْمَأْمُون فِي هَذَا الْخَبَر من النُّبْل والإنصاف لأهل الْعلم والتواضع لمن تَجِيء لَهُ من قبله فَائِدَة، وَظهر لَهُ مِنْهُ علم وَمَعْرِفَة، مَا شكر اللَّه تَعَالَى لما أَرَادَهُ بِهِ، أَلا ترَوْنَ إِلَى مَا اقترحه من الْأَشْعَار فِي الْمعَانِي الَّتِي ذكر، وَإِلَى نَقده إِيَّاهَا، وَإِلَى نقد استحسانه لَهَا، وَلَقَد كَانَ فِي الشُّعَرَاء إِذا أنْشدهُ النقاد، وَالشعرَاء إِذا أنشدوه كَانَ من الأجواد، وَلَقَد رُوي لنا عَنْهُ من نقد الشّعْر وتبريزه فِي التَّمْيِيز بَيْنَ جيده ورديئه، وإبرازه عَلَى أَهْل هَذِهِ الصِّنَاعَة فِيهِ، وعُلُوُّهِ بالْحُجَّةِ عَلَيْهِم عِنْد مخالفتهم إِيَّاه مَا يطول ذكره، وسنأتي بِمَا يحضرنا مِنْهُ فِي مُسْتَأْنف مجالسنا هَذِهِ.
وَنقد الشّعْر وَالتَّحْقِيق فِي مَعَانِيه من الصناعات الَّتِي أَكثر المضطلعين لَهَا قَدْ عُدِمُوا وَقَدْ قَلُّوا، وَقَدْ كَانَ بعض من يخْتَلف إليّ للأخذ عني، وَالْقِرَاءَة عليَّ من أَهْل بعض الْأَطْرَاف،