وأحْلِبُ الثَّرَّةَ الصَّفِيَّ وَلا ... أُجْهِدُ أخْلافَ غريبٍ حَلَبَا
قَالَ ابْن أَبِي الْأَزْهَر: ويروي الضَّفِيّ، قَالَ أَبُو بَكْر: وسمعتُ بُنْدارًا الكَرْخِيّ، يَقُولُ: لَا أحبّ الضَّفيَّ بالضاد فِيمَا يرويهِ النّاس، لِأَن الضَّفِيَّ يَكُون للمَلِكِ دون السُّوقَة، والصَّفِيُّ بالصَّاد أبلغ فِي الْمَعْنى لِأَنَّهَا الغزيرة اللَّبن، قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: وَالَّذِي حُكِيَ فِي هَذَا عَنْ بُندار قريب، وجائزٌ أَن يَكُون الصَّفِيُّ بِمَعْنى الشَّيْء الَّذِي يُخْتار ويُصطَفى، وَإِن كَانَ مُصطفيه غَيْر ملكٍ، لِأَن صَفِيَّ المَال إِنَّمَا وُسِمَ بِهَذِهِ السِّمة لِأَن الْملك اصطفاه لنَفسِهِ، وجائزٌ أَن يصطفيه الْملك ثُمّ يصير لبَعض السوقة، وَجَائِز أَن يُقَالُ للشَّيْء الْكَرِيم صَفِيٌّ بِمَعْنى أَنَّهُ لنفاسته مِمَّا يصطفيه الْمُلُوك وَيصْلح أَن يصطفوه، فيعبَّر عَنْهُ بِذَلِك قبل أَن يُصْطَفى، كَمَا قَالَ الله عز وَجل: " وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا " فسَمَّاهم شُهَدَاء قبل أَن يشْهدُوا، وَكَقَوْلِه: " إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا " وَكَانَت الملوكُ قبل الإِسْلام تَصْطفي من الغَنِيمة عِلْقًا مِنْهَا كَرِيمًا أَوْ غُرَّة مشتراة لأنفسها فَيَأْخذهُ دون الْجَيْش، وَفِي ذَلِك يَقُولُ الشَّاعِر:
لَك الْمِرْباعُ مِنْها والصَّفَايَا ... وحكمك والنشيطة والفضول
يَعْنِي بالمرباع: رُبْع الْغَنِيمَة، والصَّفايا: جمع صفِيَّة، وَهِي مَا ذكرنَا، وَقَوله: وحكمك أَيْ مَا تتحكُّم فِيهِ وتحكُم بِهِ، والنَّشِيطَةُ مَا تنشطه من الْمغنم فتأخذُه، والفضول مَا فضل عَنِ الْقِسْمَة أَوْ كَانَ القَسْمُ لَا يَحْتَمله، ثُمّ جعل اللَّه تبَارك وَتَعَالَى لنبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا غنمه الْمُسلمُونَ من الْمُشْركين الْخُمْس ولذوي الْقُربى من رَهْطِه وَمن سَمَّى مَعَهم، فحط مَا جعل لَهُ عَنْ قَدْر مَا كَانَت الْمُلُوك تَأْخُذهُ قبله، تَطْيِيبًا لنفوس أَصْحَابه، وتوكيدًا لما نَزَّهَهُ عَنْ أَخذ الْأجر عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " مَا لي فِي هَذَا الْمَالِ إِلا الْخُمْسُ، وَهُوَ مردودٌ فِيكُمْ "، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذ مِنْهُ حَاجته لمؤونته وَمُؤْونَةِ أَهْلِهِ، وَيصرف مَا بَقِيَ مِمَّا خلص لَهُ وَهُوَ خُمْس الْخُمسِ فِي الْكِراع والسِّلاح وَمَا كَانَ تأييدًا للدّين وعَتَادًا لنوائب الْمُسْلِمِين، وَكَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفِيُّ أَيْضا، فَكَانَ يَأْخُذهُ من أصل الْغَنِيمَة، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغار عَلَى بني المصطلق وهم غَارونَ، فَقتل مقاتلهم وسبى زراريهم، وَاصْطفى مِنْهُم جُويرية ابْنة الْحَارِث.
رَجعْنَا إِلَى تَمام الشّعْر، شعر ابْن عبدل وَبَقِيَّة الْخَبَر المتضمن لَهُ:
إِنِّي رأيتُ الْفَتى الْكَرِيم إِذا ... رغَّبتَهُ فِي صنيعةٍ رَغِبَا
والعَبْدُ لَا يطلُبُ الْعلَا وَلا ... يُعطيك شَيْئا إِلا إِذا ضُربا
وَلَم أجد عُرْوَة الْخَلَائق إِلا الد ... ين لمَّا اخْتَبرْتُ والحَسَبَا
قَدْ يُرْزَقُ الخافِضُ الْمُقِيم وَمَا ... شَدَّ بعنسٍ رَحْلا وَلا قَتَبَا
ويُحْرمُ الرِّزْقَ ذُو المطية والر ... حل وَمن لَا يَزَالُ مُغْتَرِبَا