قَالَ القَاضِي: وَلَفظ قراءتنا عَلَى مَا فِي مَصَاحِفنَا عَلَى الْإِضَافَة أولى بإبانة الْمَعْنى وَطَرِيق التَّحْقِيق دون التَّجَوُّز، لِأَن قراءتنا أَتَتْ بِإِضَافَة كُلّ إِلَى قلب، واستوعبت قُلُوب المنكرين، وَجَرت عَلَى إِضَافَة جمع إِلَى مَا دَلِيل الْجمع ظَاهر فِي لَفظه، وَقِرَاءَة عَبْد اللَّه أضيف فِيهَا وَاحِد إِلَى جمَاعَة تجوزًا وعني بِهِ معْنى الْجمع وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَول الشَّاعِر:
كلوا فِي نصف بَطْنِكُمُ تَعيشُوا ... فَإِن زَمَاننا زمنٌ خميصُ
وَقَول الآخر:
كأَنَّه وجهُ تركيين قَدْ عُصِبَا ... مستهدفٌ لِطِعان غير تذبيب
وَقَول ابْن عَبْدة:
بهَا جِيَفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها ... فبيضٌ وأمّا جلدُها فَصَلِيبُ
وَقَول جرير:
الوَارِدِينَ وتيمٌ فِي ذُرَا سبأٍ ... قَدْ عض أَعْنَاقهم جلدُ الجَوَامِيسِ
وقَالَ الآخر:
لَا تُنكِرُوا القَتْلَ وَقَدْ سُبِينَا ... فِي حَلْقِكُمْ عظمٌ وَقَدْ شَجِينَا
عَلَى أَن وَجه قِرَاءَة عَبْد اللَّه فِي هَذَا الْمَعْنى أقوى مِمَّا فِي هَذِهِ الأبيات، لِأَن لكلّ لفظا يَقْتَضِي التَّوْحِيد، وَمعنى يَقْتَضِي الْجمع، وَقَدْ يُتَّجه فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه حملهَا عَلَى مَا لَا يتَغَيَّر الْمَعْنى بِهِ من التَّجَوُّز، الَّذِي يُسَميه النحويُّون الْقلب، وَقَدْ تَأَول عَلَيْه قومٌ من النَّحْوِيين كثيرا من آي الْقُرْآن وَمَا وَردت بِهِ الْأَخْبَار، وَهُوَ الْبَاب الَّذِي بلغتين: أدخلتُ القَلَنْسُوَةَ رَأْسِي، وتَهَيَّبني الفلاة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
وَلا تَهَيَّبُنِي الموماةُ أرْكَبُها ... إِذا تجاوبتِ الأصْدَاءُ بالسَّحَرِ
وَهَذَا بَاب قَد استقصيناه فِي كتبنَا، وأمللْنا مِنْهُ قدرا وَاسِعًا عَلَى شرحٍ وتفصيل فِيمَا أمللناه من النثر وَالنّظم، وَمن شرح مُخْتَصر أَبِي عَمْرو الْجرْمِي فِي النَّحْو، وأتينا فِيهِ بِمَا لَا نعلم أحدا سبقنَا إِلَيْهِ، وَمن نظر فِيمَا هُنَالك تبين مِنْهُ مَا وَصفنَا إِن شَاءَ اللَّه.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الْحَسَن بْن مُحَمَّد أَبُو عِيسَى الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْهَالُ بْنُ بَحْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِيمَانًا؟ قَالُوا: الْمَلائِكَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ؟ قَالُوا: فَالنَّبِيُّونَ، قَالَ: كَيْفَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: كَيْفَ لَا تَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَإِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِيمَانًا قومٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَجِدُونُ اسْمِي فِي ورقةٍ فَيُؤْمِنُونَ بِي وَيُصَدِّقُونِي ".