هَذَا الْوَقْت على الشُّرُوع فِيهِ، الِاشْتِغَال بِهِ، وَسَهل الْأَمر عَليّ فِيهِ أَن بعض أَصْحَابنَا يَكْتُبهُ عني إملاء فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت.
وَقد صنف فِي نَحْو هَذَا الْكتاب جمَاعَة من أهل الْعلم وَالْأَدب كتبا على أنحاء مُخْتَلفَة، فَمنهمْ من جعل جملَة كِتَابه جَامِعَة لكتب مكتتبة، وَمِنْهُم من جعله أبواباً مبوبة، وأفرد أبوابه بفصول مُمَيزَة، وَمَعَان خَاصَّة غير ممتزجة، وسمى بعض هَؤُلَاءِ مَا أَلفه الْجَوَاهِر وَبَعْضهمْ زَاد الْمُسَافِر وَبَعْضهمْ الزهرة وَبَعْضهمْ أنس الْوحدَة، فِي أشباه لهَذِهِ السمات عدَّة، وَعمل أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد النَّحْوِيّ كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ الْكَامِل، وَضَمنَهُ أَخْبَارًا وقصصاً لَا إِسْنَاد لكثير مِنْهَا، وأودعه من اشتقاق اللُّغَة وَشَرحهَا وَبَيَان أسرارها وفقهها مَا يَأْتِي مثله بِهِ لسعة علمه وَقُوَّة فهمه، ولطيف فكرته، وصفاء قريحته، وَمن جلي النَّحْو وَالْإِعْرَاب وغامضها مَا يقل وجود من يسد فِيهِ مسده، إِلَّا أَن كِتَابه هَذَا مقصر عَمَّا وسمه بِهِ، وَاخْتَارَهُ من تَرْجَمته، وَغير لَائِق بِهِ مَا آثره من تَسْمِيَته، فحطه بِهَذَا عَن منزلَة - لَوْلَا مَا صنعه - كَانَت حَاصِلَة لَهُ، فسبحان الله مَا أبين انْتِفَاء هَذَا الْكتاب عَن نسبه، وَأَشد منافاته للقبه! وَأَنْشَأَ الصولي كتابا سَمَّاهَا الْأَنْوَاع مبوباً أبواباً شَتَّى غير مستوفاة، وأتى فِيهِ بأَشْيَاء مستحسنة على مَا ضم إِلَيْهِ من أُمُور مستهجنة، وصنف أَيْضا كتابا كَأبي قماش سَمَّاهُ النَّوَادِر، وهجاه بعض الشُّعَرَاء بِمَا كرهت حكايته، وَإِن كَانَ حِين وقف عَلَيْهِ فِيمَا بَلغنِي اسْتغْرب ضحكاً، غير أَن الْجَمِيل أجمل، والتسلم من أَعْرَاض النَّاس أمثل، وصنف قوما كتبا فِي هَذَا الْبَاب تشْتَمل على فقر من الْآدَاب والفوائد منثورة غير مبوبة، ومخلوطة غير مُقَيّدَة، بفصول متميزة وَلَا أَبْوَاب متحيزة.
وَقد سميت كتابي الجليس الصَّالح الْكَافِي، والأنيس الناصح الشافي وأودعته كثيرا من فنون الْعُلُوم والآداب، على غير حصر بفصول وأبواب، وضمنته كثيرا من محَاسِن الْكَلَام وجواهره، وملحه ونوادره، وَذكرت فِيهِ أصولاً من الْعلم أتبعتها شرح مَا يتشعب مِنْهَا، ويتصل بهَا بِحَسب مَا يحضر فِي الْحَال، مِمَّا يُؤمن مَعَه الملال، وَمن وقف على مَا أتيت بِهِ من هَذَا، علم أَن كتَابنَا أَحَق بِأَن يُوصف بالكمال والاستيفاء، والتمام وَالِاسْتِقْصَاء، وَصدق وسمه بالجليس والأنيس، فَإِن الْكتاب إِذا حوى مَا وصفناه من الْحِكْمَة وأنواع الْفَائِدَة، كَانَ لمقتنيه والناظر فِيهِ بِمَنْزِلَة جليس كَامِل وأنيس فَاضل، وَصَاحب أَمِين عَاقل، وَقد قيل فِي الْكتاب مَا مَعْنَاهُ أَنه حَاضر نَفعه، مَأْمُون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إِلَيْك، ويمل بملالك فينفض عَنْك، إِن أدنيته دنا، وَإِن أنأيته نأى، لَا يبغيك شرا، وَلَا يفشي عَلَيْك سرا، وَلَا ينم عَلَيْك، وَلَا يسْعَى بنميمة إِلَيْك، وَلذَلِك قَالَ بَعضهم:
نعم الصاحب والجليس كتاب ... تهلو بِهِ إِن خانك الْأَصْحَاب
لَا مفشياً عِنْد القطيعة سره ... وتنال مِنْهُ حِكْمَة وصواب