فصفه، فَقلت: أما مَنْصُور النمري فَحسن الْبناء، قريب الْمَعْنى، سهل كَلَامه، صَعب مرامه، سُلَيْم الْمُتُون، كثير الْعُيُون، وأمّا مُسْلِم فمزج كَلَام البَدَوِيِّين، بِكَلَام الحضريّين، وَضَمنَهُ الْمعَانِي اللطيفة، والألفاظ الطريفة، فَلَه جزالة البدويّين ورقَّة الحضريين، قَالَ: أبَيْتَ أَن تحكم فحكمت، مَنْصُور أشعرهما.
قَالَ القَاضِي: وَكنت يَوْمًا جَالِسا فِي دَار أَمِير الْمُؤْمِنِين الْقَادِر بِاللَّه وبالحضرة جمَاعَة مِنْ أماثل شعراء زَمَاننَا، وَفِيهِمْ من لَهُ حَظّ من أَنْوَاع الْآدَاب، وَتصرف فِي نقد الشّعْر وَمَعْرِفَة بأعاريضه وقوافيه، وخواصه ومعانيه، وَمَا يمْتَنع مِنْهُ وَيجوز فِيهِ، فأفاضوا فِي هَذِهِ الْوُجُوه إِلَى أَن انْتَهوا إِلَى ذكر أَبِي تَمام وَمُسلم بْن الْوَلِيد، وقَالَ كُلّ وَاحِد مِنْهُم فِي تجميل أوصافهما، وترتيب أشعارهما بِمَا حَضَره، وَلَم أُصْغِ كُلّ الإصغاء إِلَى مَا أتوابه من ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يَجْرِ عَلَى قصد التَّحْقِيق، وَظهر مِنْهُم أَوْ من بَعضهم تَشَوُّفٌ إِلَى أَن آتِي بِمَا عِنْدِي فِي ذَلِكَ، فَقلت: أَبُو تَمام لَهُ التَّقَدُّم فِي إحكام الصَّنْعَة وحبك الْأَلْفَاظ الْمُطَابقَة المسْتَعْذَبة، وإبداع الْمعَانِي اللطيفة الْمُسْتَغْرَبة، والاستعارة المتقبلة الغريبة، والتشبيهات الْوَاضِحَة العجيبة، ومُسلم لَهُ الطَّبْع وَقرب المأخذ، فقبلوا بِهَذَا وأعجبوا بِهِ، وأظهروا استحسانه، والاغتباط باستفادته، ثُمّ حضرني بعض من يتعاطى هَذَا الشَّأْن فَسَأَلَنِي إملاءَه عَلَيْه، فَقلت لَهُ: أَنَا قائِل لَك فِي هَذَا قولا وجيزًا مُخْتَصرا يَأْتِي عَلَى الْمَعْنى، وَلَهُ مَعَ الِاخْتِصَار حلاوة، وبهاء وطلاوة، وَهُوَ أَن أَبَا تَمام أصنع، وَمُسلم أطبع، وَكَانَ بعضُ من قَدَّمتُ الْحِكَايَة عَنْهُ من الشُّعَرَاء لما قلتُ فِي ذَلِك الْمجْلس مَا قلته أقبل عليَّ، وقَالَ لي: مَا أحدٌ يُدَانِيك فِي هَذَا الْبَاب، فَلِمَ لَا تكون مِنَّا؟ وَلَم تُؤثر مجالسة غَيرنَا، لغَلَبَة هَذَا الشَّأْن عَلَيْه، وَجرى يَوْمًا بيني وبَيْنَ رجلٌ لَهُ حَظّ من الْعلم وَالْأَدب ذكُر بعض من كُنَّا نجالسه من رُؤَسَاء ذَوي السّلطان وَالْولَايَة، وَأهل الْعلم وَالْأَدب وَالرِّوَايَة، مَعَ وفور حَظه من التدين، والنزاهة والتصون، وَأَنه كَانَ يخالفنا فِي أَشْيَاء، ويمارينا فِيهَا مَعَ ظُهُور صِحَة مذاهبنا، وَفَسَاد اختياراته الْمُفَارقَة لاختيارنا، وتذاكرنا مَا يُظهره من الزراية عَلَى أَبِي تَمام وَابْن الرُّومِي وأَنَّهُ لَا يقف عِنْد التَّسْوِيَة بَينهمَا وبَيْنَ من هُوَ منخفض بدرجات متفاوته عَنْهُمَا، حَتَّى يَحَطَّهُما عَمَّن هُوَ أَدْوَن رُتْبَة وأوفى منزلَة، فَقلت لهَذَا الرَّجُل: كَأَنّ هَذَا الْأَمر يخْتَلف بِحَسب اخْتِلاف الأمزجة، وتركيب الْأَبْنِيَة، وَيلْحق بِمَا يخْتَلف فِيهِ شهوات النّاس ولَذَّاتهم من الْأَطْعِمَة والاشربة، ويُؤْثِرُونه من المراكب والملابس والمواطن، ثُمّ ذكرت لَهُ أَحْوَال النّاس فِي اختيارهم مَا يختارونه من الشّعْر، وَأَن كثيرا مِنْهُم بالطويل أَشد أعجابًا مِنْهُ بِغَيْرِهِ، وَيذْهب غَيره إِلَى مثل هَذَا بالبسيط، وَبَعْضهمْ فِي الْكَامِل، وَبَعْضهمْ فِي الوافر، وَقَدْ كَانَ قُدَامة الْكَاتِب يرى تَقَدُّم أول السَّريع عَلَى غَيره من أَنْوَاع الشّعْر فِي بهائه وتَقَبُّل الطبائع لَهُ،