وَقَول الْقَائِل من الْمُحدثين:
لَا تحقرنَّ سُبَيْبًا ... كم جَرَّ أمرا سُبَيْبُ
وَكَانَ بَعْض من يتعاطى الْأَدَب، ويدأب فِي طلب الْمعَانِي واستنباط لطيفها سمع مني معنى مَا ذكرته فِي هَذَا الْفَصْل، بَعْدَ أنَّ طعن على من قدمت لَهُ الْحِكَايَة عَنْهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَقَالَ: كَيْفَ يكون الصّغير كَبِيرا؟ وَإِذا جَازَ هَذِه جَازَ مِنْهُ أَن يَصح قَول من قَالَ: الدَّاء هُوَ الدَّوَاء السقم هُوَ الشِّفَاء، وَهَذَا ممّا عبرت عَنْ مَعْنَاهُ بلفظي دون لفظ الْمُتَكَلّم بِهِ، لأنني لَمْ أصمد لحفظه، وَلِأَنَّهُ كَانَ غَيْر بليغ فِي نَفسه وَلَا مُسْتَقِيم فِي ترتيبه، فجليت مَعْنَاهُ بِلَفْظ لَمْ آل فِي إيضاحه وتهذيبه.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: إِن الَّذِي اجتبيتُه فِي هَذَا غَيْر مُخَالف لِلْقَوْلِ الثَّانِي الَّذِي قَدَّمْتَ حكايته عَنْ قَائِله، فَكَانَ من جوابي لهَذَا الْقَائِل أَن قلت لَهُ: إِن الْفرق بَيْنَ قولي وَقَول من رغبت عَنْ قَوْله وتسبقني إِلَى مُوَافَقَته، أنَّ هَذَا الَّذِي حكيت قَوْله، يزْعم أنَّ الصّغير الْمَذْكُور إِذَا جر إِلَى ضَرَر فكبيره أبلغ فِي الضَّرَر مِنْهُ، وَأَنا ذهبت إِلَى أنَّ هَذَا التصغير يُؤثر تَأْثِيرا كَبِيرا من حَيْث كَانَ جنسه يُؤثر نفعا أَوْ ضُرًّا بكيفيته دون كميته، وَضربت لهَذَا الْمُخَاطب مثلا قربت هَذا الْفَصْل عينه حِين بَعْدَ عَنهُ إِدْرَاكه، إِذَ كَانَ الْفرق بَيْنَ هذَيْن الْقَوْلَيْنِ لطيفًا جدا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا من بَعْض الْوُجُوه تناسب وَشبه تقَارب. فَقلت لَهُ: لمّا كَانَ من الْأَشْيَاء مَا يكون عِنْدَ قَلِيل أَجْزَائِهِ مَنْفَعَة جسيمة أَوْ مضرَّة عَظِيمَة، كالدرياق والسم بولغ فِي الْعبارَة عَنِ الْمَنَافِع بهَا لاشتهار هَذَا الْمَعْنى، كَقَوْل الْحُبَابِ بْن الْمُنْذر: " أَنَا جُذَيْلُها الْمُحَكّك وعُذَيْقها الْمُرَجّب "، وَفِي الْإِخْبَار عَنِ الْجِنْس الضار قَول لبيد: دويهية تصفر مِنْهَا الأنامل، وَجُمْلَة الْفَصْل بَيْنَ قولي وَقَول من خالفته وتوهمت أَنِّي وافقته أَنَّهُ عني بالكمية وعنيت بالكيفية، وَقد يكون من الْأَشْيَاء مَا يُؤثر قَلِيله، وينتفي تَأْثِيره عَنْ كبيره، كالجروراء من الْحَيَّات والصرد والقرقس والبعوض من الْجِنْس الْوَاحِد، وكنوع من الْحَيَّات ذَوَات الْأَجْسَام اللطيفة وعظيم ضررها، وقُصور الْحَيَّة الْكَبِيرَة الْمُسَمَّاة الحَفّاث فِي ذَلِكَ عَنْهَا وَإِن كَانَتْ أعظم خلقا وأشنع منْظرًا، وَقد قَالَ أَهْلَ الْعلم بصناعة الطِّبّ: إِن السقمونيا ينْتَفع بتناول مِقْدَار فِيهِ يسيرٌ ذَكرُوهُ، ويقاربه فِي النَّفْع والضر مَا قاربه من الْأَجْزَاء فِي الْمبلغ وَالْقدر، وَأَنه إِذَا بلغ من الْكَثْرَة مِقْدَارًا متفاوتًا لَمْ يَضْرُر كَبِير ضَرَر، وَلم يظْهر فِي أَخذه مَا يظْهر بتناول قَلِيله من الْأَثر فِي نفع وَلَا ضَرَر، وَلَقَد حَدَّثَنِي بَعْض متفقهي الْقُضَاة أنَّ قوما دسوا كثيرا من السقمونيا فِي بَعْض المطاعم الحلوة لرجل كَانُوا يعاشرونه، وَكَانَ مَعْرُوفا بِكَثْرَة الْأكل، وَأَنه أكل جَمِيعه وَانْصَرف عَنْهُمْ، فَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُم، وَأَشْفَقُوا على هَذِه الرجل، وَعَلمُوا عَلَى الفحص عَنْ أمره واستعلام خَبره، فَجَاءَهُمْ يتأوه وَيَقُول لَهُمْ: أَي شَيْءٍ أطعمتموني فقد عرض لي قَوْلُنَج بَرّح بِي. وأمّا قَول هَذَا الْمُخَاطب لي: