لأحدٍ بمدحٍ وَلا هجاء.
قَالَ: فَأَخذهَا الفرزدق ومرّ بِعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان وَهُوَ جَالس فِي سقيفَةِ دَاره وَعَلِيهِ مطرفٌ وعمامةُ خَز حَمْرَاء وجبة خَزٍّ حَمْرَاء، فَقَالَ:
أعَبْدَ اللَّهِ أنتَ أحقُّ ماشٍ ... وساعٍ بالجَمَاعير الكبارِ
فلِلْفَارُوقِ أمُّكَ وابنُ أرْوَى ... أَبوك وَأَنت مُنْصَدِعُ النهارِ
هما قمرُ السَّماءِ وَأَنت نجمٌ ... بِهِ فِي اللَّيْل يُدْلِجُ كلُّ سارِ
قَالَ: فَخلع عَلَيْه جُبَّتَه والْمِطْرَفُ والْعِمامة ودعا لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. قَالَ: فَخرج رجلٌ كَانَ عندعبد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان، وَقَدْ حضر الفَرَزْدَق عِنْدَمَا أَعْطَاه عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَتقدم إِلَيْهِ فَأخْبر عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز الْخَبَر، فَبعث إِلَيْهِ عُمَر: ألم أتقدّم إِلَيْك يَا فرزدقُ أَلا تَعْرِض لأحدٍ بمدحٍ وَلا هجاء، اخْرُج فقد أَجَّلْتُك ثَلَاثًا، فَإِن وجدتُك بعد ثَلَاث نَكَّلْتُ بك، قَالَ: فَخرج الفرزدق وَهُوَ يَقُولُ:
أَأَوْعَدَنِي وأَجَّلَنِي ثَلَاثًا ... كَمَا وعدت لمهاكها ثَمُودُ؟
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، ثَنَا عِيسَى بْن مُحَمَّد بْن ناظرة السدُوسِي، قَالَ: حَدَّثَنِي قُبَيْصةُ بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْيَمَان ابْن عُمَر مَوْلَى ذِي الرِّيَاسَتين قَالَ: كَانَ ذُو الرِّياستين يَبْعثُني وأحداثًا من أَحْدَاث أَهله إِلَى شيخ بخراسان لَهُ أدبٌ وَحُسْنُ معرفةٍ بالأمور، وَيَقُولُ لنا: تعلَّموا مِنْهُ الْحِكْمَة فَإِنه حَكِيم، فكنّا نأتِيه، فَإِذا انصرفنا من عِنْده سَأَلَنا ذُو الرياستين وَاعْترض مَا حفظناه فنُخْبِرُه، فصرنا ذَات يوْم إِلَى الشَّيْخ فَقَالَ لنا: أَنْتُم أدباءُ وَقَدْ سَمِعْتُمْ الْحِكْمَة، وَلكم خيراتٌ ونعمٌ، فَهَل فِيكُم عاشق؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: اعشقوا فَإِن الْعِشْق يُطلق اللسانَ الغبيَّ، وَيفتح حِيلَة البليد والبخيل، وَيبْعَث عَلَى التنظُّفِ، وتحسين اللِّباس، وتَطْيِيبِ المَطْعم، وَيَدْعُو إِلَى الْحَرَكَة والذكاء. وَيُشْرِفُ الهِّمَة، وإيّاكُم والحرامَ.
فانصرفنا من عِنْده إِلَى ذِي الرياستين، فَسَأَلْنَاهُ عمّا افدناه فِي يَوْمنَا ذَلِكَ، فهِبْناهُ أَن نُخْبِره، فغرم علينا، فَقُلْنَا لَهُ: أَمَرَنَا بِكَذَا وَكَذَا، وقَالَ لنا كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صدق واللَّهِ، أتعلمون من أَيْن أَخذ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ ذُو الرياستين: إِن بهْرَام جُور كَانَ لَهُ ابنٌ وَكَانَ قَدْ رَشَّحَه لِلْأَمْرِ من بعده، فَنَشَأَ الْفَتى ناقصَ الْمُرُوءَة، خاملَ النَّفْس، سيىء الْأَدَب، فغَمَّهُ ذَلِكَ، وَوَكَّلَ بِهِ من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يُلازمه ويعلَّمه، وَكَانَ يسألهم عَنْهُ فيحكون لَهُ مَا يَغُمُّه، من سوء فهمه وَقلة أدبه، إِلَى أَن سَأَلَ بعضَ مؤدِّبيه يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ الْمُؤَدب قَدْ كُنّا نَخَاف سُوءَ أدبه فحَدَثَ من أمْرِه مَا صِرنْا إِلَى الْيَأْس من فلاحه، قَالَ: وَمَا