وَإِذا كتاب الْمَنْصُور بِخَطِّهِ إِلَى أمه فَوَجَمَ أَبُو أَيُّوب وَنَدم وَعلم أَنَّهُ قَدْ عجل وَأَخْطَأ، وَأَن الْخَبَر لَمْ يكن كَمَا ظن، وعزم عَلَى الْحلف والمكابرة إِن عثر عَلَى شَيْءٍ من أمره، وَأَبْطَأ خبر الْغُلَام عَلَى أبي جَعْفَر، واستبطأه فِي الْوَقْت الَّذِي ضرب لَهُ، فَدَعَا خَادِمًا من ثقاته ورجلا من خاصته، فَقَالَ لَهما: استقرئا الْمنَازل إِلَى المَوْصِل منزلا منزلا وقرية قَرْيَة، وأعطيا صفة الْغُلَام حَتَّى تدخلا المَوْصِل، ثُمَّ اقصدا مَوضِع كَذَا من المَوْصِل فسلا عَنْ فُلَانَة، وَوصف لَهما كل مَا أَرَادَ ففعلا، فَلَمّا انتهيا إِلَى الْموضع الَّذِي أُصِيب فِيهِ الْغُلَام أُعْلِما خَبره، وَذكروا الْوَقْت الَّذِي أُصِيب فِيهِ فَإِذا التَّارِيخ بِعَيْنِه، ثُمَّ مضيا إِلَى المَوْصِل فسألا عَنْ أمه فوجداها أشدَّ خَلْق اللَّه تَعَالَى وَلَهًا إِلَى ابْنهَا، وحاجة إِلَى عَلمُ خَبره، فأطلعاها طلع حَاله، وأمراها أَن تستر أمرهَا، ثُمَّ رجعا إِلَى أبي جَعْفَر بجملة خَبره، فَكَادَتْ أمه أَن تقتل نَفسهَا وَلم تُرد الدُّنْيَا بعده، وَكَانَ الْمَنْصُور يذكُره فيكادُ ذكرهُ يصدع قلبه، وَأجْمع أَبُو جَعْفَر عَلَى الْإِيقَاع بِأبي أَيُّوب عِنْدَ ذَلِكَ، فاستصفي مَاله وَمَال أَهْلَ بَيته، ثُمَّ قَتلهمْ جَمِيعًا وأباد عصراءهم، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَبَا أَيُّوب لَعنه وسبه، وَقَالَ: ذَاك قَاتل حَبِيبِي.
حَدَّثَنِي أَبُو الْمُنْذر، قَالَ: حَدَّثَنِي شيخٌ من أَهْلَ وَادي الْقرى، قَالَ: لمّا استعدى آل بثينة مَرْوَان بْن الحكم عَلَى جميل وَطَلَبه رِبْعِيُّ ابْن دجَاجَة الْعَبْدي صَاحب تيماء هرب إِلَى أقاصي بِلَادهمْ، فَأتى رَجُلا من بْني عذرة شريفًا وَله بَنَات سبْعٍ كأنهن البدور جمالا، فَقَالَ: يَا بَنَاتِي! تحلّيْن بجيد حُليكن والبسن جيّد ثيابكن ثُمَّ تعرضن لجميل فَإِنِّي أنفس عَلَى مثل هَذَا من قومِي، فَكَانَ جميل إِذَا تزيَّنَّ ورآهن أعرض بِوَجْهِهِ فَلا ينظر إلَيْهِنَّ، ففعلن ذَلِك مرَارًا وَفعله جميل، فَلَمّا عَلَمُ مَا أُرِيد بِهن أنشأ يَقُول:
حَلَفْتُ لكَي تَعْلَمُنَّ أنِّيَ صادقٌ ... ولَلصدقُ خَيْر فِي الأمورِ وأنْجَحُ
لتكليمُ يَوْمٍ من بُثَيْنة واحدٍ ... ورؤيتها عِنْدِي ألذُّ وأصلحُ
من الدَّهْر أَوْ أخْلُو بِكُنَّ وَإِنَّمَا ... أعالِجُ قلبًا طامحًا حَيْث يطمحُ
قَالَ: فَقَالَ لَهُنَّ أَبُوهُن: ارْجِعْنَ، فوَاللَّه لَا يفلح هَذَا أبدا.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا يزِيد بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ: كنت جَالِسا بَيْنَ يَدي هَارُون الرشيد أنْشدهُ شعرًا، وَأَبُو يُوسُف القَاضِي جَالس عَلَى يسَاره، فَدخل الفَضْل بْن الرّبيع، فَقَالَ: بِالْبَابِ أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ، فَقَالَ: أدخلهُ، فَلَمّا دَخَلَ قَالَ: السّلام عَلَيْكَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، فَقَالَ لَهُ الرشيد: لَا سلّم اللَّه عَلَيْكَ وَلَا قَرَّب دَارك وَلَا حَيّا مزارك، قَالَ: لَمْ