ويقْرعون، فِقِيلَ لمالك رحمه اللَّه تعالى: أرأيتَ إنْ قدمَ الغائبُ أو أدركَ الصغيرُ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ؟ فقال: جَازت القسمةُ بينهم، ولوْ أنَّ الحاكمَ أرادَ ذَلِكَ لمْ يقدر على أكثر مِنْ أَنْ يحضرَ عدولًا حتَّى يَقْتَسمُوا، وقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ هؤلاء، ثُمَّ يقولُ عَلَى إثر ذَلِكَ: هؤلاء الحكام واللَّهِ قد أضاعُوا مِنَ الحكمِ أكثرَ منْ ذَلِكَ، والذي نعتمدُ عليه مِنْ ذَلِكَ ما وصف مالك عِنْد الضرورةِ، وإِذَا لمْ يمكنهم رفع ذَلِكَ إِلى حاكم لما لم يكن هناك من يحكم بينهم، أو لم يقدروا على تثبيت ذَلِكَ عند حاكم، فجازت حينئذٍ القسمةُ؛ لأنَّهَا موضعُ ضرورةٍ، وهذا إِذَا كَان فيهم غائبٌ أو صغيرٌ، فأمَّا إِذَا كان أهلُهَا كلُّهم كبارًا حضورًا فَلَا يحتاجون إِلَى حاكمٍ ولا إلَى قضيةِ قاضٍ.
وقدْ أجازَ أهلُ العلمِ مِنْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ومَنْ بعدَهم مِنَ الضَّروراتِ أكثرَ مِنْ هذا، وأنكرَ هؤلاء ما وصفَ مالك مِنْ ذَلِكَ عند الضرورةِ وغيرِ الضرورةِ، ثمَّ أتوا أعظمَ مما أنكروا فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالوا: لو أنَّ أمرأةً التقطتْ صبيًا فربته، فَوُهِبَ للصَّبي هبةٌ، فقَالوا بأجمعهم: لها أنْ تقبضَ ما وُهِبَ له، وهُمْ لا يرون للأم قبضًا في الأصلِ، فادَّعوا أنَّ مثلَ هذا ضرورةٌ، وقَالوا أيضًا: لو كانت صبية فخطبها خاطبٌ فلهذِهِ الملتقطة أنْ تُزوجَهَا، ولا يرون لها خيارًا إِذَا أدركتْ، وقَالوا هذا موضعُ ضرورةٍ، ومثل هذا كثير مِنْ قولهم يفرقون بين مَا جمعَ القومُ، ويجمعون بين ما فرقَ القومُ، قَدْ أُوْلعُوا بذلك، فإِذَا أحْيَا الرجلُ الأرضَ الموات كَما وصفْنَا فَقَدْ ملكَ الرقبةَ، ثمَّ إنْ ضيَّعَهَا بعدَ ذَلِكَ ثلاث سنين فَقَدْ زالَ عَنهُ مَا أحْيَا، إلَّا أنْ يكونَ حَوطَ عليها الحائط، فإن ملكه حينئذٍ لا يزول.