وكان يومُ دَفْنِه يَومًا مشهودًا ضاقت به البلدُ وظواهِرُها، وتُذُكِّرتْ به أوائِلُ الرَّزايا وأواخِرُها، ولم يكن أعظم منها مُنذُ مِئِينَ سِنِينَ جنازة رُفِعَتْ على الرِّقَابِ، ووُطِئَتْ في زِحَامِهَا الأَعقابُ، وسارَ مرفوعًا على الرُّءوس، متبوعًا بالنفوس، تَحْدُوهُ العَبَرات، وتَتْبَعُه الزَّفَرات، وتقولُ له الأمم: لا فُقِدتَ مِن غائب، ولأقلامه النافعةِ: لاَ أَبْعَدَكُنَّ اللهُ مِن شَجَرات.

وكان في مَدَد ما يؤخذ عليه في مقاله ويُنْبَذُ في حُفْرةِ اعتقالِه، لا تَبرُد له غُلَّة في الجمع بينه وبين خُصَمائه بالمناظرة، والبحثِ حيث العيونُ ناظرة، بل يَبدُر حاكمٌ فيحكمُ باعتقاله، ويمنعه من الفتوى، أَو بأشياءَ من نوعِ هذه البلوى، لا بعد إقامة بيّنةٍ ولا تقدُّمِ دعوى، ولا ظهورِ حجّةٍ بالدليل، ولا وضوح محجَّةٍ للتأميل، وكان يَجد لهذا ما لا يُزَاح فيه ضَرَرُ شَكْوَى، ولا يُطْفَاُ ضَرَمُ عَدْوى:

وكلُّ امرىٍ حازَ المكارمَ محسود

كضَرائرِ الحسناءِ قُلنَ لِوَجْهِها ... حسَدًا وبُغْضًا إنه لَدَميمُ

كل هذا لتبريزه في الفضل حيثُ قصَّرتِ النُّظَراءُ، وتَجلِّيْهِ كالمصباح إذْ أظلمت الآراءُ، وقيامِه في دفع حُجَّةِ التَّتارِ، واقتحامه وسيوفُهم تتدفَّقُ لُجَّةَ البِدار، حتَّى جَلَس إِلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ في دواخلِ أجسامِها، وتَجِدُ النارُ فتورًا في ضَرَمِها، والسيوفُ فَرَقًا في قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُع المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الَّذي يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فَجلس إِليه وأومأ بيده إِلى صدرِه، وواجَهَه ودرأَ في نَحْرِه، فطَلَبَ منه الدُّعَاء، فرفَع يديه ودعَا، دُعاءَ مُنصفٍ أكثرُه عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه وهو مُقبلٌ إليه. ثمَّ كَانَ على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015