عظماءُ على المشاهير الشهورَ، فأحيَى معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فَنَنِه الرطيب ما غرس. وأصبح في فضله آيةً إِلاَّ أنّه آية الحرس. عرضت له الكدى فدحرجها، وعارضته البحارُ فضحضحَهَا، ثمَّ كَانَ أمّة وحده، وفردًا حتَّى نزل لحدَه، أخمل من القرناءِ كلّ عظيم، وأخمد من أهل الفناء كلّ قديم، ولم يكن منهم إِلاَّ منن يجفل عنه إجفالَ الظليم، ويتضاءل لديه تضاؤلَ الغريم:

مَا كانَ بعضُ الناسِ إلاّ مِثْلَما ... بعضُ الحصَا الياقوتةُ الحمراءُ

جاء في عصرٍ مأهولٍ بالعلماء، مشحونٍ بنجومِ السماء، تَمُوجُ في جانبَيهِ بحورٌ خَضَارِمُ، وتطِيرُ بين خَافِقَيهِ نُسُورٌ قَشَاعِمُ، وتُشْرِقُ في أنديتهِ بُدورُ دُجُنَّةٍ، وصدورُ أسِنَّةٍ، وتَثْأرُ جُنُودُ رَعيلٍ، وتَجْأَرُ أسودُ غِيْلٍ، إِلاَّ أَنَّ صَبَاحَه طَمَسَ تلك النجوم، وبَحْرهُ طَمَّ على تِلكَ الغُيُوم، ففَاءَتْ سُمْرَتُه على تلك التِّلاعِ، وأطلَّتْ قَسورتُه على تلك السِّبَاعِ، ثُمَّ عُبِّئَتْ له الكتائبُ فحَطَّمَ صفوفَها، وخَطَمَ أُنوفَها، وابتلَعَ غَدِيرُهُ المطمئنُّ جَداولَها، واقتلَعَ طَوْدُهُ المُرْجَحِنُّ جَنَادِلَها، وأخمدتْ أنفاسَهم رِيحُه، وأَكْمَدَت شَرَاراتِهم مصابِيحُه:

تَقدَّمَ راكبًا فيهم إمامًا ... ولولاه لما رَكِبُوا وَراءَا

فجَمعَ أشْتَات المذاهب، وشُتَّاتَ المذاهب، ونَقَلَ عن أئمةِ الإجماعِ فمَنَ سِواهم مذاهبَهم المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وأَحْضَرها، فلو شعَرَ أَبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأَدْنَى عَصْرَهُ إِليه مُقرِّبًا، أَو مالكٌ لأَجْرىَ وراءَه أشهبَه ولو كَبَا، أَو الشَّافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كَانَ للأمِّ وَلَدًا، أو: لَيتَني كنت له أبَا، أو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إِذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشْيَبَا، لاَ بل داودُ الظاهريُّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015