ولَقَّمَ نارَهم سَعَفَه، وأرَى أقساطَهم سَرَفه، فلم يَزَلْ إِلى أن ماتَ عِرْضُه منهوبًا، وعَرْضُه مَوْهُوبًا، وصَفَاتُه تَتصدَّع، ورُفَاتُه لا يتجمَّع، ولعلَّ هذا لخيرٍ أُريدَ به، وأُرِيغَ له لحُسنِ مُنقَلَبه.
وكان لتعمُّدهِ للخلاف، وتَقصُّده بغيرِ طريقِ الأسْلاَف، وتقويتِه للمسائل الضعاف، وتقويضِه عن رؤوسِ السِّعاف، تغيَّرُ مكانته (?) من خاطِر السلطان، وتسبَّبُ له التغرُّبَ عن الأوطان، وتُنَفّذُ إِليه سِهامَ الألسنةِ الرواشِق، ورِماحَ الطَّعنِ في يدِ كلِّ ماشق، فلهذا لم يَزَلْ مُنغَّصًا عليه طولَ مُدَّتِه، لاَ تكادُ تَنفرِجُ عنه جوانبُ شِدَّتِه (?).
هذا مع ما جَمعَ من الورع، وإلى ما فيه من العُلَى، وما حازَه بحذافيرِ الوجود في الجود، كانت تأتيه القَناطيرُ المقنطرةُ من الذهب والفضة والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعامِ والحرثِ، فيَهَبُه بأجمعِه، ويَضعُه عند أهل الحاجةِ في موضعِه، لا يأخذ منه شيئًا إِلاَّ ليهَبه، ولا يَحفظُه إِلاَّ ليُذْهِبَه كُلَّه في سبيل البرّ، وطريق أهلِ التواضع لا أهلِ الكِبْر. لم يَمِلْ به حُبُّ الشهوات، ولا حُبِّبَ إِليه من ثلاثِ الدنيا غير الصلاة.
ولقد نافستْ ملوك جَنكِزْ خان عليه، ووَجَّهَت دسائِسَ رُسُلِها إليه، وبعثَتْ تجدُّ في طلبهِ، فنُوسِيَتْ عليه لأمورٍ أعظمُها خوفُ توتُّبِه، وما زال على هذا ومثلِه إِلى أَنْ صَرعَه أجلُه، وأتاهُ بَشِيْرُ الجَنَّةِ يَستعجلُه، فانتقل إِلى اللهِ والظنُّ به أَنَّه لا يُخجِلُه.