(ت جة) , عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ " (?) وفي رواية: " لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ " (?)
تقدم شرحه
مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَة:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ عَلَى الْوَجْهِ الآتِي: قَالَ الْكَاسَانِيُّ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ فِي الأَوَانِي وَنَحْوِهَا، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدَاوَنِيُّ وَأَبُو اللَّيْثِ: إِذَا دَخَلَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ فِي الإِنَاءِ وَخَرَجَ بَعْضُهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لا تَسْتَبِينَ فِيهِ النَّجَاسَةُ، لأَنَّهُ صَارَ مَاءً جَارِيًا، وَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الأَعْمَشِ: لا يَطْهُرُ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَاءُ فِيهِ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ مِثْلَ مَا كَانَ فِيهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِهِ ثَلاثًا.
وَقِيلَ: إِذَا خَرَجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْمَاءِ النَّجَسِ يَطْهُرُ، كَالْبِئْرِ إِذَا تَنَجَّسَتْ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهَا بِنَزْحِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ. (?)
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَمُكَاثَرَتِهِ حَتَّى يَزُولَ التَّغَيُّرُ. وَلَوْ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ فَفِيهِ قَوْلانِ:. (?)
قِيلَ: إِنَّ الْمَاءَ يَعُودُ طَهُورًا، وَقِيلَ: بِاسْتِمْرَارِ نَجَاسَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الأَرْجَحُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لأَنَّ النَّجَاسَةَ لا تُزَالُ إِلا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ حَاصِلا، وَحِينَئِذٍ فَيَسْتَمِرُّ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ.
وَمَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ، أَمَّا الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى تَنَجُّسِهِ بِلا خِلافٍ.
كَمَا يَطْهُرُ الْمَاءُ النَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَوْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِإِضَافَةِ طَاهِرٍ، وَبِإِلْقَاءِ طِينٍ أَوْ تُرَابٍ إِنْ زَالَ أَثَرُهُمَا، أَيْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِمَا فِيمَا أُلْقِيَا فِيهِ، أَمَّا إِنْ وُجِدَ فَلا يَطْهُرُ، لاحْتِمَالِ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِمَا. (?)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (?): فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُرَادُ تَطْهِيرُهُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ أَوْ يَزِيدُ.
أ - فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ: فَتَطْهِيرُهُ يَكُونُ بِالْمُكَاثَرَةِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُكَاثَرَةِ صَبُّ الْمَاءِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلِ الْمُرَادُ إِيصَالُ الْمَاءِ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، إِمَّا مِنْ سَاقِيَةٍ، وَإِمَّا دَلْوًا فَدَلْوًا، أَوْ يَسِيلُ إِلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ.
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَكُونُ التَّكْثِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاءُ الَّذِي كَاثَرَهُ بِهِ طَاهِرًا أَمْ نَجِسًا، قَلِيلا أَمْ كَثِيرًا، لِقَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ ".
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَكُونُ التَّكْثِيرُ بِقُلَّتَيْنِ طَاهِرَتَيْنِ، لأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَوْ وَرَدَ عَلَيْهِمَا مَاءٌ نَجَسٌ لَمْ يُنَجِّسْهُمَا مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ بِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ وَارِدَةً، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِمَا طَهَارَةُ مَا اخْتَلَطَتَا بِهِ.
ب - وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بِالنَّجَاسَةِ، وَحِينَئِذٍ يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ لا غَيْرُ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِهَا فَيَطْهُرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: بِالْمُكَاثَرَةِ إِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُولَ تَغَيُّرُهُ بِطُولِ مُكْثِهِ.
وَلا يَطْهُرُ بِأَخْذِ بَعْضِهِ حِينَئِذٍ وَلَوْ زَالَ بِهِ التَّغَيُّرُ، لأَنَّهُ يَنْقُصُ عَنْ قُلَّتَيْنِ وَفِيهِ نَجَاسَةٌ.
ج - وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَزِيدُ عَنْ قُلَّتَيْنِ فَلَهُ حَالانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ، فَلا سَبِيلَ إِلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَتَطْهِيرُهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلاثَةٍ: بِالْمُكَاثَرَةِ، أَوْ بِزَوَالِ تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ، أَوْ بِالأَخْذِ مِنْهُ مَا يَزُولُ بِهِ التَّغَيُّرُ وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا. فَإِنْ بَقِيَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ قَبْلَ زَوَالِ تَغَيُّرِهِ لَمْ يَبْقَ التَّغَيُّرُ عِلَّةَ تَنْجِيسِهِ، لأَنَّهُ تَنَجَّسَ بِدُونِهِ فَلا يَزُولُ التَّنْجِيسُ بِزَوَالِهِ، وَلِذَلِك طَهُرَ الْكَثِيرُ بِالنَّزْحِ وَطُولِ الْمُكْثِ وَلَمْ يَطْهُرِ الْقَلِيلُ، فَإِنَّ الْكَثِيرَ لَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ التَّغَيُّرَ زَالَ تَنْجِيسُهُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ كَالْخَمْرَةِ إِذَا انْقَلَبَتْ خَلا، وَالْقَلِيلُ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ الْمُلاقَاةُ لا التَّغَيُّرُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ زَوَالُهُ فِي زَوَالِ التَّنْجِيسِ. (?)
وَاخْتَلَفُوا فِي تَطْهِيرِهِ بِالتُّرَابِ أَوِ الْجِصِّ إِنْ زَالَ بِهِ التَّغَيُّرُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَوَّلُ: لا يَطْهُرُ، كَمَا لا يَطْهُرُ إِذَا طُرِحَ فِيهِ كَافُورٌ أَوْ مِسْكٌ فَزَالَتْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ، وَلأَنَّ التُّرَابَ أَوِ الْجِصَّ لا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَهُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالثَّانِي: يَطْهُرُ، لأَنَّ عِلَّةَ نَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرُ وَقَدْ زَالَ، فَيَزُولُ التَّنْجِيسُ كَمَا لَوْ زَالَ بِمُكْثِهِ أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ آخَرَ، وَيُفَارِقُ الْكَافُورَ وَالْمِسْكَ لأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرَّائِحَةُ بَاقِيَةً، وَإِنَّمَا لَمْ تَظْهَرْ لِغَلَبَةِ رَائِحَةِ الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ. (?)