(ت س د ن) , وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ الْجُهَنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: (" أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -) (?) (قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ) (?) (فَقُرِئَ عَلَيْنَا) (?) (بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ) (?) (أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ (?) ") (?)
وفي رواية: " قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - مِنْ أَرْضِ جُهَيْنَةَ وَأَنَا غُلامٌ شَابٌّ , أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ " (?)
مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَة:
وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأكُولِ اللَّحْمِ - إِلَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ وَسِيلَةٌ لِتَطْهِيرِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَأكُولَةَ اللَّحْمِ أَمْ غَيْرَ مَأكُولَةِ اللَّحْمِ، فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جِلْدُ مَيْتَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ إِلا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْجَمِيعِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَإِلا جِلْدَ الآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:} وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ {وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ، كَمَا اسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جِلْدَ الْفِيلِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ بِأَحَادِيثَ، مِنْهَا:
أ - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ".
ب - وَبِمَا رَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْمُحَبِّقِ " أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ. قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا ".
ج - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " تَصَدَّقَ عَلَى مَوْلاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟ فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا ". وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُولِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الدَّبْغَ يُزِيلُ سَبَبَ النَّجَاسَةِ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ وَالدَّمُ، فَصَارَ الدَّبْغُ لِلْجِلْدِ كَالْغَسْلِ لِلثَّوْبِ، وَلأَنَّ الدِّبَاغَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ لِلْجِلْدِ وَيُصْلِحُهُ لِلانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَيَاةِ، ثُمَّ الْحَيَاةُ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْجُلُودِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ. (?)
أَمَّا اسْتِثْنَاءُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ فَلأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، أَيْ أَنَّ ذَاتَهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا نَجِسَةٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَلَيْسَتْ نَجَاسَتُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ أَوِ الرُّطُوبَةِ كَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنْ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِذَا لَمْ يَقْبَلِ التَّطْهِيرَ. (?)
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ لاسْتِثْنَاءِ الْكَلْبِ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ ".
وَالطَّهَارَةُ تَكُونُ لِحَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، وَلا حَدَثَ عَلَى الإِنَاءِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوُلُوغَ سَبَبٌ لِلْخَبَثِ بِسَبَبِ نَجَاسَةِ فَمِ الْكَلْبِ، فَبَقِيَّةُ أَجْزَاءِ الْكَلْبِ أَوْلَى بِالنَّجَاسَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ لا تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْكَلْبِ فَالدِّبَاغُ أَوْلَى، لأَنَّ الْحَيَاةَ أَقْوَى مِنَ الدِّبَاغِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا سَبَبٌ لِطَهَارَةِ الْجُمْلَةِ، وَالدِّبَاغُ وَسِيلَةٌ لِطَهَارَةِ الْجِلْدِ فَقَطْ. (?)
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ لِطَهَارَةِ جِلْدِ الْكَلْبِ بِالدِّبَاغَةِ بِعُمُومِ الأَحَادِيثِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ. (?)
وَالْكَلْبُ لَيْسَ نَجِسَ الْعَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي الأَصَحِّ، وَكَذَلِكَ الْفِيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ " (?) وَفَسَّرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ بِعَظْمِ الْفِيلِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ قَالَ: " أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ: أَلا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ ". وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ ".
وَأَجَابَ الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ بِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَيِ النَّظَافَةِ، وَلِذَا جَازَ الانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالاتٍ خَاصَّةٍ كَمَا سَيَأتِي.
وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمَا: بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ. (?)
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ جِلْدُ مَيْتَةِ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ، مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَظِبَاءٍ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَأكُولِ اللَّحْمِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " فَيَتَنَاوَلُ الْمَأكُولَ وَغَيْرَهُ، وَخَرَجَ مِنْهُ مَا كَانَ نَجِسًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِكَوْنِ الدَّبْغِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي دَفْعِ نَجَاسَةٍ حَادِثَةٍ بِالْمَوْتِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ قَوْلُهُ: بِطَهَارَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ مَأكُولِ اللَّحْمِ فَقَطْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَكَاةُ الأَدِيمِ دِبَاغُهُ " وَالذَّكَاةُ إِنَّمَا تَعْمَلُ فِيمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ (?)