مِنَ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ الْمَاءُ الْقَلِيلُ إِذَا خَالَطْتُهُ نَجَاسَة
حَدُّ الْمَاءِ الْقَلِيل

(ت جة) , عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ " (?)

وفي رواية: " لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ " (?)

الشَّرْح:

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم - وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ) الْفَلَاةُ: الْقَفْرُ , أَوْ الْمَفَازَةُ لَا مَاءَ فِيهَا , أَوْ الصَّحْرَاءُ الْوَاسِعَةُ. تحفة67

(وَمَا يَنُوبُهُ) يُقَالُ: نَابَ الْمَكَانَ وَأَنَابَهُ , إِذَا تَرَدَّدَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. تحفة67

(مِنْ السِّبَاعِ) يقع اسم السبع على كل ما له ناب يعدو به ويفترس , كالذئب , والفهد , والنمر. ذخيرة52

(وَالدَّوَابِّ) العطف يكون من باب عطف الخاص على العام , إن قلنا بعموم الدواب , ومن عطف المُغاير إن قلنا بالعرف الذي يخصه بذوات الأربع مما يُركب. ذخيرة52

أَيْ: مَا حَال الْمَاء الَّذِي تَنُوبهُ الدَّوَابّ وَالسِّبَاع، أَيْ: يَشْرَب مِنْهَا وَيَبُول وَيُلْقِي الرَّوْث فِيهَا. عون63

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلَّم -: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ: الْقُلَّةُ الْحُبُّ الْعَظِيمُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ , وَالْجَمْعُ قِلَالٌ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِالْحِجَازِ , وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي صِفَةِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى: " نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ ".

وَهَجَرُ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ الْمَدِينَةِ , وَلَيْسَتْ هَجَرَ الْبَحْرَيْنِ , وَكَانَتْ تُعْمَلُ بِهَا الْقِلَالُ , تَأخُذُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا مَزَادَةً مِنْ الْمَاءِ، سُمِّيَتْ قُلَّةً , لِأَنَّهَا تُقَلُّ , أَيْ: تُرْفَعُ وَتُحْمَلُ. اِنْتَهَى كَلَامُ الْجَزَرِيِّ.

وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ طَاهِرٌ فِي مَجْمَعِ الْبِحَارِ: الْقُلَّةُ جَرَّةٌ عَظِيمَةٌ , تَسَعُ خَمْسَمِائَةِ رِطْلٍ. تحفة67

أَيْ: (270) لتر تقريبا.

(لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ) النَّجَس وَمَعْنَاهُ لَمْ يُنَجَّس بِوُقُوعِ النَّجَاسَة فِيهِ كَمَا فَسَّرَتْهُ الرِّوَايَة الْآتِيَة " إِذَا بَلَغَ الْمَاء قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ " (?) وَتَقْدِير الْمَعْنَى لَا يَقْبَل النَّجَاسَة، بَلْ يَدْفَعهَا عَنْ نَفْسه.

وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَضْعُف عَنْ حَمْله لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ بِالْقُلَّتَيْنِ مَعْنًى، فَإِنَّ مَا دُونهمَا أَوْلَى بِذَلِكَ. عون63

وفي رواية: " لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ "

قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ بِمَنْطُوقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجَّسْ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، فَإِنَّ مَعْنَى (لَمْ يَحْمِلْ) أَيْ: لَمْ يَقْبَلْ النَّجَاسَةَ , وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ , فَإِنْ تَغَيَّرَ نَجِسَ، وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَقَلَّ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ , وَهَذَا الْمَفْهُومُ يُخَصِّصُ حَدِيثَ " الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْء " عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْمَفْهُومِ , وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ , أَجْرَاهُ عَلَى عُمُومِهِ , كَمَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا يُنَجَّسُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ.

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: قَوْلُ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ إِلَّا التَّغَيُّرَ وَعَدَمَهُ قَوِيٌّ , لَكِنَّ الْفَصْلَ بِالْقُلَّتَيْنِ أَقْوَى لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ , وَقَدْ اِعْتَرَفَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِذَلِكَ , لَكِنَّهُ اِعْتَذَرَ مِنْ الْقَوْلِ بِهِ , فَإِنَّ الْقُلَّةَ فِي الْعُرْفِ تُطْلَقُ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ كَالْجَرَّةِ , وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ الْحَدِيثِ تَقْدِيرُهُمَا فَيَكُونُ مُجْمَلًا , فَلَا يُعْمَلُ بِهِ. وَقَوَّاهُ اِبْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ.

لَكِنْ اِسْتَدَلَّ لَهُ غَيْرُهُمَا , فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْمُرَادُ: الْقُلَّةُ الْكَبِيرَةُ , إِذْ لَوْ أَرَادَ الصَّغِيرَةَ لَمْ يَحْتَجْ لِذِكْرِ الْعَدَدِ , فَإِنَّ الصَّغِيرَ بَيْنَ قَدْرِ وَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ , وَيَرْجِعُ فِي الْكَبِيرَةِ إِلَى الْعُرْفِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَ تَحْدِيدَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ , وَالْعِلْمُ مُحِيطٌ بِأَنَّهُ مَا خَاطَبَ الصَّحَابَةَ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُونَ , فَانْتَهَى الْإِجْمَالُ، اِنْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ.

وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ: وَقِلَالُ هَجَرَ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ , وَلِشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ شَبَّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ نَبْقِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى بِقِلَالِ هَجَرَ , فَقَالَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: " رُفِعْت إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ " قَالَ: وَاعْتِذَارُ الطَّحَاوِيِّ فِي تَرْكِ الْحَدِيثِ أَصْلًا بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْقُلَّتَيْنِ لَا يَكُونُ عُذْرًا عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ. اِنْتَهَى.

وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ ذِكْرِ كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ هَذَا: فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ مُلَازَمَةٍ بَيْنَ هَذَا التَّشْبِيهِ وَبَيْنَ ذِكْرِ الْقُلَّةِ فِي حَدِّ الْمَاءِ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهَا فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ , بِحَيْثُ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْكِبَرِ , كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ الْمُطْلَقَ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى التَّقْيِيدِ الْمَعْهُودِ.

وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقِلَالُ مُخْتَلِفَةٌ فِي قُرَى الْعَرَبِ , وَقِلَالُ هَجَرَ أَكْبَرُهَا , وَقِلَالُ هَجَرَ مَشْهُورَةُ الصَّنْعَةِ , مَعْلُومَةُ الْمِقْدَارِ , وَالْقُلَّةُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ وَبَعْدَ صَرْفِهَا إِلَى أَحَدِ مَعْلُومَاتِهَا وَهِيَ الْأَوَانِي , تَبْقَى مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكِبَارِ , جَعْلُ الشَّارِعِ الْحَدَّ مِقْدَارًا بِعَدَدٍ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَكْبَرِهَا , لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْدِيرِهِ بِقُلَّتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ , مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَقْدِيرِهِ بِوَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ اِنْتَهَى.

قُلْت: وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ تَقْيِيدُ الْقُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى اِبْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ عُمَرَ " إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ "

قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ: فِي إِسْنَادِهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ صِقْلَابٍ , وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ،

قَالَ النُّفَيْلِيُّ: لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمَنًا عَلَى الْحَدِيثِ.

وَقَالَ اِبْنُ عَدِيٍّ لَا يُتَابَعُ عَلَى عَامَّةِ حَدِيثِهِ. اِنْتَهَى.

قُلْت: قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ فِي تَرْجَمَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ صِقْلَابٍ: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَالِحُ الْحَدِيثِ , وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَا بَأسَ بِهِ. اِنْتَهَى.

فَالِاعْتِذَارُ مِنْ الْقَوْلِ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ بِزَعْمِ الْإِجْمَالِ فِي مَعْنَى الْقُلَّةِ , اِعْتِذَارٌ بَارِدٌ. تحفة67

طور بواسطة نورين ميديا © 2015