الجبل ويقفون الآثار حتى دخلوا المغارة التي فيها النعمان وأمه فأخذوهما وأتوا بهما إلى عامر ذي رياش فأخذهما ورجع فنزل قصر غمدان ولم يكن ينزل قصر غمدان إلا الملك الأعظم ولا ينزله إلا من استحق عندهم اسم تبع من ملوك حمير وحبس النعمان وأمه عنده في قصر غمدان، فلم يزل النعمان محبوساً فماتت أمه وشب الصبي واحتلم. فبينما النعمان ليلة من ذلك الزمان مع الحرس الذين كانوا يحرسونه وكانوا عشرة وفيهم رجل يقال له همدان بن الوليد بن عاد الأصغر بن قحطان، وكان يخدم السكسك جد النعمان، وكان يرق له سراً وكان أغلط الحرس في العلان فبينما النعمان في الحرس جالس إذ طلع القمر وقد خسف فبكى النعمان لما رأى القمر خاسفاً وقالوا له: مال الذي يبكيك؟ قال: أبكاني تقلب الدهر بأهله لن ينجو من غدر هذه الدنيا وعثراتها شيء في الأرض ولا في السماء. فلما كان في الليلة الثانية طلع القمر مشرقاً زاهراً فضحك النعمان فقالوا له: ما الذي أضحكك؟ قال لهم: لعل الذي أبكى يضحك، ثم قال لهم: أرى هذا الدهر يقيل واحداً عثرته فيدرك أمله وآخر
يمضي عليه فيستريح وأنا كما ترون لا يمضي علي فأستريح ولا يقيلني عثرتي فأبلغ أملي، وكان همدان بن الوليد رجلاً عاقلاً قد استمال إليه الحرس بعقله ولطفه يصرفهم كيف ساء، فقال لهم: إن في الكلام راحة تريدون أن أجيب عنكم النعمان؟ قالوا: نعم. فقال همدان: يا نعمان لعل أملك أقرب من أجلك، ثم نظر همدان إلى من حوله وتصحف وجوههم ليرى من يرضى قوله ومن يسخطه، فقالوا له: رضينا قولك يا همدان - فنظر النعمان إلى القمر في الليلة الثالثة وهو مشرق زاهر فأنشأ يقول:
اربد وجهك بعد حشن ضيائه ... وخسفت بعد النور والإشراق
هل كان هذا الشأن منك سجية ... أم خان عهدك غادر الميثاق