وإن شيئًا وقع الاختلاف فيه في ذلك العصر بين أولئك الأئمة لحري أن يشكل على من بعدهم وتختلف فيه آراؤهم ويكثر فيه تنازعهم، وقد ثبت من مذاهب الناس وحجة كل فريق منهم لمذهبه وموضع الاختيار من ذلك السبب الذي أوجبه، والعلة التي غلبت عليه ما حضرنى بمبلغ العلم ومقدار الطاعة، فنقول: أجمع الناس على تحريم الخمر (?) إلا قومًا من مجان أصحاب الكلام وفساقهم ممن لا يعبأ الله بهم فإنهم، قالوا: ليست محرمة وإنما نهى الله عن شربها تأديبًا، كما أمر في الكتاب بأشياء ونهى فيه عن أشياء على جهة التأديب وليس منها ما هو فرض كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] وقوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وكقوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29].
قالوا: لو أراد تحريمها لقال: حرمت عليكم الخمر كما ذكر في الميتة وغيرها. وليس للشغل بهؤلاء وجه ولا تشقيق الكلام بالحجج عليهم معنى، إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على إجماع، وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يخيل على عاقل ولا جاهل؛ لأن الناس أجمعوا على أن ما غلى وقذف بالزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر، وأنه لا يزال خمرًا حتى يصير خلًّا وأنها ليست محرمة العين كالخنزير، وإنما حرمت بعَرَضٍ دخلها، فإذا زايلها حلت كما كانت قبل الغليان حلالًا؛ كالمسك كان دمًا عبيطًا ثم جف، وحديث رائحته فيه خل وطاب، وكان جماعة من الصحابة يحرمونها على أنفسهم في الجاهلية لعلمهم بسوء مصرعها وكثرة جناياتها، قالت عائشة - رضي الله عنها -: ما شرب أبو بكر - رضي الله عنه - خمرًا في جاهلية ولا إسلام.
وقال عثمان - رضي الله عنه - كذلك، وكان عبد الرحمن بن عوف ممن ترك