وأيضًا فإنه - عليه السلام - كان يبعث أمراء السرايا فيقول لهم: "إذا لقيتم العدو فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالجزية، فإن أعطوا وإلا قاتلوهم" (?) ولم ينص على مشرك دون مشرك بل عمَّ جميعهم؛ لأن الكفر يجمعهم، ولما جاز أنْ يسترقهم جاز أن يأخذ منهم الجزية؛ عكسه المرتد لما لم يجز أن يسترق لم يجز أخذ الجزية منه. وليس مما احتجّ به من الآية دليل أن الجزية لا يجوز أخذها من غير أهل الكتاب؛ لأن الله لم ينه أن يأخذ من غيرهم، وللشارع أن يزيد في البيان ويفرض ما ليس بموجود ذكره في الكتاب، ألا ترى أن الله تعالى حرم الأمهات ومن ذكر معهنَّ في الآية، وحرم الشارع الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها, وليس ذلك بخلاف الكتاب، فكذلك أخذه الجزية من جميع المجوس هو ثابت بالسنة الثابتة. وهذا ينتظم الرد على أبي حنيفة في قوله: إنّ مجوس العرب لا يجوز أخذ الجزية منهم، وتؤخذ من سائر المجوس غيرهم؛ لإطلاقه - عليه السلام - على أخذها من جميع المجوس؛ لقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ومن ادعى الخصوص في هذا وأن المراد به بعضهم. فعليه الدليل.
قال ابن بطال: وأما قول الشافعي: إن المجوس كانوا أهل كتاب فرفع (كتابهم) (?) غير صحيح؛ لأنه لو كان كذلك لكان لنا أن نأكل ذبائحهم وننكح نسائهم، وهذا لا يقول به أحد.
وقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" يدل أنه لا كتاب لهم، وأيضًا فإنهم لو كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم، لوجب أن يصيروا بمنزلة من لا كتاب له؛ لأنَّ الشيء إذا كان لمعنى فارتفع المعنى ارتفع الحكم (?).