- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قِصَّةُ العُتْبِيِّ:

ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ (?) قِصَّةً اغْتَرَّ بِهَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ أَنَّ العُتْبيَّ (?) قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فقالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ، سَمِعْتُ اللهَ يَقُوْلُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوْكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيْمًا} (النِّسَاء:64). وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إِلَى رَبِّي ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُوْلُ:

يَا خَيْرَ مَنْ دُفنَتْ بِالقَاعِ أَعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيْبِهِنَّ القَاعُ وَالأَكَمُ

نَفْسِيْ الفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيْهِ العَفَافُ وَفِيْهِ الجُوْدُ وَالكَرَمُ

ثُمَّ انْصَرَفَ الأَعْرَابِيُّ، فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّومِ فَقَالَ: يَا عُتْبيُّ، اِلْحَقِ الأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ).

فَاسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى أُمُوْرٍ؛ أَهَمُّهَا جَوَازُ شَدِّ الرَّحَالِ إِلَى قُبُوْرِ الصَّالِحِيْنَ لِطَلَبِ الاسْتِغْفَارِ وَالشَّفَاعَةِ مِنْهُم.

وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ:

1) أَنَّ هَذِهِ القِصَّةَ سَاقِطَةُ الصِّحَّةِ.

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي (?) فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المُنْكيُّ): (وَفِي الجُمْلَةِ لَيْسَتِ الحِكَايَةُ المَذْكُوْرَةُ عَنِ الأَعْرَابيِّ مِمَّا تَقُوْمُ بِهِ الحُجَّةُ، وَإِسْنَادُهَا مُظْلِمٌ وَلَفْظُهَا مُخْتَلَفٌ (فِيْهِ) أَيْضًا، وَلَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَمْ يَكُنْ فِيْهَا حُجَّةٌ عَلَى مَطْلُوْبِ المُعْتَرِضِ، وَلَا يَصْلُحُ الاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذِهِ الحِكَايَةِ، وَلَا الاعْتِمَادُ عَلَى مِثْلِهَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيْقُ).

2) أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ فَهِيَ صَادِرَةٌ عَنْ أَعْرَابيٍّ مَجْهُوْلٍ، وَأنَّى يَكُوْنُ الاسْتِدْلَالُ بِمِثْلِهَا فِي أُمُوْرِ العَقِيْدَةِ. (?)

3) أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ أَيْضًا وَذُكِرَ فِيْهَا إِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَهِيَ مَا تَزَالُ مَنَامًا، وَلَيْسَ مِنْ مَصَادِرِ التَّشْرِيْعِ الإِسْلَامِيِّ المَنَامَاتُ. (?)

4) مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِذْ ظَلَمُوا) ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَشْرُوْعِيَّةِ الفِعْلِ دَوْمًا كَالظَّرْفِ (إِذَا). (?)

5) أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ أَيْضًا فَهِيَ مَقْرُوْنَةٌ بِحَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ فِيْهَا {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ}.

6) أَنَّ السَّلَفَ كُلَّهُم لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُم أَبَدًا - وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ المَعْرُوْفَةِ - أَنَّهُم فَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ المَتْبُوعَةِ. فَكَيفَ يُتْرَكُ (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) وَيُذهَبُ إِلَى أَضْغَاثِ أَحْلَامٍ فِي أَسَاطِيْرِ الأَوَّلِيْنَ.

7) أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى القُبُوْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا لِحَديْثِ (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدٍ)، وَلِحَدِيْثِ (لَا تَجْعَلوا قَبْرِيْ عِيْدًا). (?)

8) أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ فِي الصَّحِيْحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: (إنَّ خَيْرَ التَّابِعِيْنَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ - وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ (?) -، فَمُرُوْهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُم). وَفِي رِوَايَةٍ (لَو أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)، فَلَمَّا لَقيَهُ عُمَرُ قَالَ الحَدِيْثَ، ثُمَّ قَالَ: (فَاسْتَغْفِرْ لِيْ) فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. (?)

وَدِلَالَةُ هَذَا الحَدِيْثِ هُنَا أَنَّ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْشَدَ عُمَرَ إِلَى أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِنْ أُوَيْسٍ - وَهُوَ تَابِعِيٌّ -، وَأَيْنَ مَنْزِلَتُهُ مِنْ مَنْزِلَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وَمَعْ ذَلِكَ فَقَدْ أَرْشَدَهُ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُ المَفْضُوْلُ وَيَتْرُكَ طَلَبَ الدُّعَاءِ مِنْ خَيْرِ الخَلْقِ فِي قَبْرِهِ، وَهَذَا دَلِيْلٌ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الفَرْقَ هُوَ تَغَيُّرُ نَوْعِ الحَيَاةِ؛ وَقُدْرَةُ الحَيِّ عَلَى الدُّعَاءِ لِلمُعَيَّنِ، بِخِلَافِ مَنْ حَيَاتُهُ بَرْزَخِيَّةٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَتَأَمَّلْ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015