عدم منافاة العلو للمعية

3) أَمَّا عَدَمُ مُنَافَاةِ العُلُوِّ لِلمَعِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} (الحَدِيْد:4)، وَقَوْلِهِ {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المُجَادِلَة:4).

فَالجَوَابُ: أَنَّ الكَلَامَ فِي هَاتَيْنِ الآيَتِيْنِ حَقٌّ عَلَى حَقِيْقَتِهِ وَظَاهِرِهِ، وَلَكِنْ مَا حَقِيْقَتُهُ وَظَاهِرُهُ؟

هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيْقَتَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ مُخْتَلِطًا بِهِم! أَوْ حَالًّا فِي أَمْكِنَتِهِم؟!

أَوْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ وَحَقِيْقَتَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ مُحِيْطًا بِهِم عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا وَتَدْبِيْرًا وَسُلْطَانًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوْبيَّتِهِ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ جَمِيْعِ خَلْقِهِ؟

لَا رَيْبَ أَنَّ القَوْلَ الأوَّلَ لَا يَقْتَضِيْهِ السِّيَاقُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ المَعِيَّةَ هُنَا أُضِيْفَتْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُحِيْطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوْقَاتِهِ! وَلِأَنَّ المَعِيَّةَ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتِيْ نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ لَا تَسْتَلْزِمُ الاخْتِلَاطَ أَوِ المُصَاحَبَةَ فِي المَكَانِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ المُصَاحَبَةِ، ثُمَّ تُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسْبِهِ. (?)

وَتَفْسِيْرُ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ بِمَا يَقْتَضِي الحُلُوْلَ وَالاخْتِلَاطَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوْهٍ؛ مِنْهَا:

أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ، فَمَا فَسَّرَهَا أَحَدٌ مِنْهُم بِذَلِكَ؛ بَلْ كَانُوا مُجْمِعِيْنَ عَلَى إِنْكارِهِ.

وَأَيْضًا أَنَّهُ مُنَافٍ لِعُلُوِّ اللهِ تَعَالَى الثَّابِتِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالعَقْلِ وَالفِطْرةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ.

فَإِذَا تَبيَّنَ بُطْلَانُ هَذَا القَوْلِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُوْنَ الحَقُّ هُوَ القَوْلَ الثَّانِي؛ وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ مَعِيَّةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُوْنَ مُحِيْطًا بِهِم - عِلْمًا وَقُدْرَةً وَسَمْعًا وَبَصَرًا وَتَدْبِيْرًا وَسُلْطَانًا وَغَيْرَ ذَلِكَ - مِمَّا تَقْتَضِيْهِ رُبُوْبِيَّتُهُ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ جَمِيْعِ خَلْقِهِ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الآيَتِيْنِ بِلَا رَيْبٍ.

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ فِي الفَتْوَى الحَمَوِيَّةِ: (ثُمَّ هَذِهِ المَعِيَّةُ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِحَسَبِ المَوَارِدِ، فَلَمَّا قَالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} دَلَّ ظَاهِرُ الخِطَابِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ المَعِيَّةِ وَمُقْتَضَاهَا أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ؛ شَهِيْدٌ عَلَيْكُمْ وَمُهَيْمِنٌ عَالِمٌ بِكُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: إنَّهُ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ. وَهَذَا ظَاهِرُ الخِطَابِ وَحَقِيْقَتُهُ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُوْنُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} الآيَة، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِهِ فِي الغَارِ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا} كَانَ هَذَا أَيْضًا حَقًّا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَدَلَّتْ الحَالُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ المَعِيَّةِ هُنَا مَعِيَّةُ الِاطِّلَاعِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ). (?)

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُقْتَضَاهَا أَنْ تَكُوْنَ ذَاتُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مُخْتَلِطَةً بِالخَلْقِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيْهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ} (الحَدِيْد:4).

فَيَكُوْنُ ظَاهِرُ الآيَةِ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ المَعِيَّةِ عِلْمُهُ بِعِبَادِهِ وَبَصَرُهُ بِأَعْمَالِهِم مَعَ عُلُوِّهِ عَلَيْهِم وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ؛ لَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُخْتَلِطٌ بِهِم، وَلَا أَنَّهُ مَعَهُم فِي الأَرْضِ وَإِلَّا لَكَانَ آخِرُ الآيَةِ مُنَاقِضًا لِأَوَّلِهَا الدَّالِّ عَلَى عُلُوِّهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ.

فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادِهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَحْوَالَهُم، وَيَسْمَعُ أَقْوَالَهُم، وَيَرَى أَفْعَالَهُم، وَيُدَبِّرُ شُؤُوْنَهُم، فَيُحِيِي وُيُمِيْتُ، وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَيُؤْتِي المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقْتَضِيْهِ رُبُوْبيَّتُهُ وَكَمَالُ سُلْطَانِهِ، لَا يَحْجُبُهُ عَنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، ومِنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيْقَةً وَلَوْ كَانَ فَوْقَهُم عَلَى عَرْشِهِ حَقِيْقَةً.

وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ: لَوْ فُرِضَ امْتِنَاعُ اجْتِمَاعِ المَعِيَّةِ وَالعُلوِّ فِي حَقِّ المَخْلُوْقِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فِي حَقِّ الخَالِقِ الَّذِيْ جَمَعَ لِنَفْسِهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوْقَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ} (الذَّارِيَات:11). (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015