- الشُّبْهَةُ الأُوْلَى: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُوْرَةِ الكَهْفِ {قَالَ الَّذِيْنَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (الكَهْف:21) فِيْهِ أنَّ المُؤْمِنِيْنَ هُمُ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا ذَلِكَ، وَأَقَرَّهُم اللهُ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِم ذَلِكَ!
وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ أَوْجُهٍ (?):
1) إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى صَحِيْحَةً؛ فَإِنَّه يُقَالُ لَهُم: شَرْعُ مَنْ قَبْلِنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ. (?)
2) لَيْسَ فِي الآيَةِ الكَرِيْمَةِ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مَشْرُوْعًا عِنْدَهُم، فَلَيْسَ فِي الآيَةِ - صَرَاحَةً - أَنَّهُم كَانُوا مُسْلِمِيْنَ، عَدَا عَنْ أَنْ يَكُوْنُوا مُسْلِمِيْنَ صَالِحِيْنَ، بَلِ الظَّاهِرُ هُوَ العَكْسُ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (?) - عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ (لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ؛ اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ) -: (وَقَدْ دَلَّ القُرْآنُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيْثُ؛ وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ {قَالَ الَّذِيْنَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (الكَهْف:21) فَجَعَلَ اتِّخَاذَ القُبُوْرِ عَلَى المَسَاجِدِ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الغَلَبَةِ عَلَى الأُمُوْرِ؛ وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ القَهْرُ وَالغَلَبَةُ وَإتِّبَاعُ الهَوَى، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ العِلْمِ وَالفَضْلِ المُنْتَصِرِ لِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الهُدَى). (?)
3) دَعْوَى أَنَّهُم مُسْلِمُوْنَ؛ لَيْسَتْ ثَابِتَةٌ، بَلْ مُخْتَلَفٌ فِيْهَا عِنْدَ المُفَسِّرِيْنَ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (?): (حَكَى ابْنُ جَرِيْرٍ فِي القَائِلِيْنَ ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُم المُسْلِمُوْنَ مِنْهُم. الثَّانِي: أَنَّهُم أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْهُم. فَاللهُ أَعْلَمُ. (?)
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِيْنَ قَالوُا ذَلِكَ هُمْ أَصْحَابُ الكَلِمَةِ وَالنُّفُوْذِ، وَلَكِنْ هُمْ مَحْمُوْدُوْنَ أَمْ لَا؟ فِيْهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ قَالَ: (لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ؛ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا)، وَقَدْ رُوِّيْنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّه لَمَّا وَجَدَ قَبْرَ دَانْيَال - فِي زَمَانِهِ بِالعِرَاق - أَمَرَ أَنْ يُخْفَى عَنِ النَّاسِ). (?)
قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ المُفَسِّرُوْنَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيْمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ هُمُ المُسْلِمُوْنَ أَمِ المُشْرِكونَ! فَمَا القَوْلُ بِهَذَا الفِعْلِ الَّذِيْ اسْتَوَى فِيْهِ الظَّنُّ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ؟ فَهَلْ هَذَا إِلَّا دَلِيْلٌ عَلَى الذَّمِّ (?)، وَاللهُ أَعْلَمُ.
4) أَنَّ الآيَةَ الكَرِيْمَةَ لَمْ تُسَقْ لِبَيَانِ حُكْمِ هَذَا الفِعْلِ أَصْلًا، وَلَكِنَّهَا كَانَتِ اخْتِبَارًا لِلمُشْرِكِيْنَ فِي تَصْدِيْقِهِم بِالآيَاتِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي التَّفْسِيْرِ (?): (وَإنَّمَا قُلنَا إِنَّ القَوْلَ الأَوَّلَ أَوْلَى بِتَأْوِيْلِ الآيَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الكَهْفِ عَلَى نَبِيِّهِ احْتِجَاجًا بِهَا عَلَى المُشْرِكِيْنَ مِنْ قَوْمِهِ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - إِذْ سَأَلُوْهُ عَنْهَا اخْتِبَارًا مِنْهُم لَهُ بِالجَوَابِ عَنْهَا لِصِدْقِهِ). (?)
5) لِمَاذَا احْتُجَّ بِقَوْلِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِيْ عَلَامَتُهَا الغَلَبَةُ، وَلَمْ يُحْتَجَّ بِالأُوْلَى - وَهِيَ المُنَازِعَةُ للثَّانِيَةِ {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ} وَقَدْ جَاءَ مِنْ صِفَتِهَا تَسْلِيْمُ العِلْمِ بِحَالِ أَهْلِ الكَهْفِ إِلَى اللهِ تَعَالَى {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} وَهَذَا أَوْلَى بِالاقْتِدَاءِ مِنَ الَّذِيْنَ وُصِفُوا بِالغَلَبَةِ فَقَط. (?)
6) أنَّهُ إِذَا قِيْلَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ؛ فَيُقَالُ: إِنَّ بِنَاءَ المَسْجِدِ عَلَيْهِم فِي الكَهْفِ لَهُ حَالَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُوْنَ البِنَاءُ تَمَّ عَلَى ظَهْرِ الجَبَلِ الَّذِيْ فِيْهِ الكَهْفُ (?)، أَوْ أَنْ يُبْنَى عِنْدَ بَابِ الكَهْفِ (?)، وَفِي الحَالَتِيْنِ لَيْسَ فِيْهَا صُوْرَةُ قَبْرٍ فِي مَسْجِدٍ (?)، فَبَطَلَ الاسْتِدْلَالُ؛ وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (?)