(إلا قلله) صيره عند الذكر للموت قليلًا لأنّ كل ما يفارقه صاحبه قليل وإن أكثر (ولا في قليل) من العيش (إلا أجزأه) صيره مجزيا ينتفع به صاحبه.
إن قلت: إما ذكره لتوسيع الضيق فوجه التعليل به واضح وهو ترويح النفس والرضا بالقليل وأما ذكره لتقليل الكثير فما وجهه؟
قلت: عدم الركون إلى الدنيا والرغبة فيها والذهول بشهواتها عن لقاء الله والسماحة بها وتقديمها للدار الآخرة. قال الإِمام الغزالي في الإحياء (?): واعلم أن الموت خطب هائل وخطره عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل بقلب مشغول بشهوات الدنيا فلا ينجح ذكر الموت في قلبه فالطريق فيه أن يفرغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الموت الذي هو بين يديه كالمسافر الذي يريد أن يسافر إلى مسافة مخطره أو يركب البحر فإنه لا يتفكر إلا فيه وإذا باشر ذكر الموت قلبه [1/ 399] أوشك أن يؤثر فيه وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا وينكسر قلبه وأنفع طريق فيه أن يكثر ذكر أقرانه وأشكاله الذين مضوا قبله فيذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في حياتهم وأقوالهم ثم يتذكر ويتأمل كيف محى التراب الآن حسن صورهم وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم وكيف رحلوا عن نسائهم وأولادهم وضيعوا أموالهم وخلت منهم مجالسهم ومساجدهم وانقطعت آثارهم فمهما تذكر رجلًا رجلًا ورحل في قلبه حاله وكيفية موته وتوهم صورته وتذكر نشاطه وأمله للعيش والبقاء ونسيانه للموت وانخداعه بمواتاة الأسباب وركونه إلى القوة والشباب وميله إلى الضحك واللهو والغفلة عما بين يديه من الموت والهلاك السريع وأنه كيف كان يتردد والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله وكيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه وكيف كان