في الطيب والغذاء، وذلك أن أطيب خيرات الدنيا بعد الأمن والعافية والعز والرئاسة، صلاح الماء والهواء، ثم أفضل أنهار العالم دجلة والفرات، وان نازع في ذلك أهل مصر وفضلوا نيلهم، وأطيب مواضع العالم في كل الازمنة عند قياس بعضها إلى بعض وقياس بعض البلدان إلى بعض موضع اجتماع دجلة والفرات، وذلك أن بعض المواضع يطيب صيفه ويفسد شتاؤه فسادا يمتنع فيه من المكاسب المهنية والمطالب الصناعية لشدة برده ودوام سقوط ثلجه، ومنها ما يطيب شناؤه ويفسد صيفه حتى يشغل الحر والومد والبق والهوام عن تخشين الزي باللباس والتصرف في المهن والصناعات ويعز علينا بما دفعنا إليه من مفارقة ها المصر الّذي به مولدنا وفيه منشؤنا، فنأت الأيام بيننا وبينه وساحقت مسافاتنا عنه فبعدت الدار، وتراخى المزار. لكنه الزمن الّذي من شأنه التشتيت والدهر الّذي من شرطه الافاتة، ولقد أحسن أبو دلف القاسم بن عيسى العجليّ حيث يقول في هذا المعنى في كلمة له
أيا نكبة الدهر التي طوحت بنا ... أيادي سبا في شرقها والمغارب
قفى بالتي نهوى فقد طرت بالتي ... اليها تناهت فاجعات المصائب
وقال آخر
بلاد بها أنسى وأهلي وجيرتي ... وقد يتناسى الشيء وهو حبيب
ولولا الشوق إلى الوطن والحنين الى المنشأ لم نذكر ما ذكرناه من هذه المعاني قال بعض الحكماء: إن من علامة وفاء المرء وحسن دوام عهده، حنينه الى إخوانه وشوقه الى أوطانه، وإن من علامة ارشد أن تكون النفس الى مولدها مشتاقة، والى مسقط رأسها تواقة وقال آخر: عمر الله الأبدان، بحب الأوطان. فمن علامة كرم المحتد، الحنين الى المولد