وروى عن مسرور الخادم، قال: لما احتضر هارون أمير المؤمنين، أمرني أن آتيه بأكفانه، فأتيته بها، ثم أمرني فحفرت له قبره، ثم أمر فحمل إليه، وجعل يتأمله ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28-29] . ثم أنشد الرافعي لنفسه:

الملك لله الذي عنت الوجو ... هـ له وذلت عنده الأرباب

متفرد بالملك والسلطان قد ... خسر الذين تجاذبوه وخابوا

دعهم وزعم الملك يوم غرورهم ... فسيعلمون غداً من الكذاب

وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في كل يوم مائة مرة": مم كان يتوب النبي صلى الله عليه وسلم؟ وعلى مَ يحمل الغين في قلبه؟ افترق الناس فيه فرقتين: فرقة أنكرت الحديث، واستعظمت أن يغان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر مما أصابه، وعلى ذلك جرى أبو نصر السراج، صاحب كتاب "اللمع" في التصوف، فروى الحديث، وقال عقيبه: هذا حديث منكر.

وأنكر علماء الحديث استنكار السراج، وقالوا: الحديث صحيح، وكان من حقه أن لا يتكلم فيما لا يتعلم. والمصححون له تحزبوا، فتحرج من تفسيره متحرجون.

عن شعبة: سأل الأصمعي: ما معنى "ليغان على قلبي"؟ فقال: عمن يروى ذلك؟ قلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو كان من غير قلب النبي صلى الله عليه وسلم فسرته لك، وأما قلب النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري، فكان شعبة يتعجب منه.

وعن الجنيد: لولا أنه حال النبي صلى الله عليه وسلم لتكلمت فيه، ولا يتكلم على حال إلا من كان مشرفاً عليها، وجلت حاله أن يشرف على نهايتها أحد من الخلق وتمنى الصديق رضي الله عنه، مع علو مرتبته أن يشرف عليها، فعنه: ليتني شهدت ما استغفر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذه طريقة المصححين، وتكلم فيه آخرون على حسب ما انتهى إليه فهمهم، ولهم منهاجان: حمل الغين على حالة جميلة ومرتبة عالية، اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد من استغفاره خضوعه وإظهار حاجته إلى ربه، أو ملازمته للعبودية، ومن هؤلاء من نزل الغين على السكينة والاطمئنان. وعن أبي سعيد الخزاز: الغين: شيء لا يجده إلا الأنبياء وأكابر الأولياء، لصفاء الأسرار، وهو كالغين الرقيق الذي لا يدوم.

والثاني: حمل الغين على عارض يطرأ، غيره أكمل منه، فيبادر إلى الاستغفار إعراضاً، وعلى هذا كثُرت التنزيلات والتأويلات، فقد كان سبب الغين النظر في حال الأمة واطلاعه على ما يكون منهم، فكان يستغفر لهم. وقيل: سببه ما يحتاج إليه من التبليغ ومشاهدة الخلق، فيستغفر منه ليصل إلى صفاء وقته مع الله. وقيل: ما كان يشغله من تمادي قريش وطغيانهم. وقيل: ما كان يجد في نفسه من محبة إسلام أبي طالب. وقيل: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مترقياً من رتبة إلى رتبة، فكلما رقي درجة والتفت إلى ما خلفها وجد منها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015