الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي كَوَّنَ التَّقْيِيدِ بِقِلَالِ هَجَرَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ قَبْلُ مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ صقلاب وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ1 لَكِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ قووا كون الْمُرَادَ قِلَالُ هَجَرَ بِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لَهَا فِي أَشْعَارِهِمْ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الطَّهُورِ2 وَكَذَلِكَ وَرَدَ التَّقْيِيدُ بِهَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ قِلَالُ هَجَرَ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا شَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ نَبْقِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى "فَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيلَةِ وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ" انْتَهَى3.
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ مُلَازَمَةٍ بَيْنَ هَذَا التَّشْبِيهِ وَبَيْنَ ذِكْرِ الْقُلَّةِ فِي حَدِّ الْمَاءِ فَالْجَوَاب أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهَا فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ دَالُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ بِحَيْثُ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْكِبَرِ كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ إذَا أُطْلِقَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى التَّقْيِيدِ الْمَعْهُودِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْقِلَالُ مُخْتَلِفَةٌ فِي قُرَى الْعَرَبِ وَقِلَالُ هَجَرَ أَكْبَرُهَا وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ4 قِلَالُ هَجَرَ مَشْهُورَةُ الصَّنْعَةِ مَعْلُومَةُ الْمِقْدَارِ وَالْقُلَّةُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ وَبَعْدَ صَرْفِهَا إلَى أَحَدِ مَعْلُومَاتهَا وَهِيَ الْأَوَانِي تَبْقَى مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكِبَارِ جَعَلَ الشَّارِعُ الْحَدَّ مقدارا بِعَدَدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَكْبَرِهَا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْدِيرِهِ بِقُلَّتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَقْدِيرِهِ بِوَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا مُحَصَّلُ الْبَحْثِ الرَّابِعِ.
والبحث الْخَامِسُ: فِي ثُبُوتِ كَوْنِ الْقُلَّةِ5 تَزِيدُ عَلَى قِرْبَتَيْنِ وَقَدْ طَعَنَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بِمَا مُحَصَّلُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ بمني عَلَى ظَنِّ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَالظَّنُّ لَيْسَ بِوَاجِبِ قَبُولُهُ وَلَا سِيَّمَا مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمَجْهُولِ ولهذا لَمْ يَتَّفِقْ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى الْأَخْذِ بِذَلِكَ التَّحْدِيدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْقُلَّةُ يَقَعُ6 عَلَى الْكُوزِ وَالْجَرَّةِ كَبُرَتْ أَوْ صَغُرَتْ وَقِيلَ الْقُلَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ اسْتَقَلَّ فُلَانٌ بِحَمْلِهِ،