درهماً درهماً، ودخلنا العسكر، وأبي منكّس الرأس، ثم أنزل دار إيتاخ، وجاء عليّ بن الجهم، فقال: قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة آلاف مكان التي فرّقها، وأمر أن لا يعلم بذلك فيغتمّ.
ثم جاءه أحمد بن معاوية فقال: إن أمير المؤمنين يكثر ذكرك، ويشتهي قربك، وتقيم ههنا تحدّث؟ فقال: أنا ضعيف.
ثم حمل إلى دار الخلافة. فأخبرني بعض الخدم أن المتوكل كان قاعداً وراء ستر، فلما دخل أبي الدار قال لأمه: يا أماه قد أنارت الدار. ثم جاء خادم بمنديل فيه ثياب فألبس، وهو لا يحرك يديه، فلما صار إلى الدار نزع الثياب عنه، ثم جعل يبكي، ثم قال: سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم؟ ثم قال: يا صالح وجّه هذه الثياب إلى بغداد تباع وتصدّق بثمنها، ولا يشتري أحد منكم شيئاً منها.
وأجريت له مائدة وثلج، وضرب الخيش، فلما رآه تنحّى، فألقى نفسه على مضربةٍ له، وجعل يواصل ويفطر في كل ثلاثةٍ على تمرٍ شهريز. فمكث كذلك خمسة عشر يوماً، ثم جعل يفطر ليلةً وليلةً، ولا يفطر إلا على رغيف، وكان إذا جيء بالمائدة توضع في الدهليز لكي لا يراها، فيأكل من حضر.
وأمر المتوكل أن تشترى لنا دار، فقال: يا صالح لئن أقررت لهم بشراء دار، لتكونن القطيعة بيني وبينك، فلم يزل يدفع شرى الدار حتى اندفع.
ثم انحدرت إلى بغداد، وخلّفت عبد الله عنده، فإذا عبد الله قد قدم، وقد جاء بثيابي التي كانت عنده، فقلت له: ما جاء بك؟ فقال: قال لي: انحدر، وقل لصالح: لا تخرج، فأنتم كنتم آفتى، والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أخرجت واحداً منكم معي، ولولا مكانكم لمن كانت توضع هذه المائدة؟