الْمَعْقُودَةِ فَالْآيَةُ الْأُولَى أَوْجَبَتْ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْغَمُوسِ (وَ) الْآيَةُ (الثَّانِيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ الْغَمُوسِ وَهِيَ) أَيْ الْغَمُوسُ (ثَالِثَةٌ) وَعَلَى هَذَا مَشَى صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فَإِنْ قِيلَ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] تَفْسِيرٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ وَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْكَفَّارَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْمُخْتَصَّةُ بِالْآخِرَةِ إنَّمَا هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْعِقَابُ وَجَزَاءُ الْإِثْمِ أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى طَرِيقِ دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ (أَيْ يُؤَاخِذُكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِمَا عَقَّدْتُمْ) أَيْ إذَا جَعَلَ الْإِثْمَ بِالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ (فَطَرِيقُ دَفْعِهِ) أَيْ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى الْمَعْقُودَةِ الْحَانِثَةِ فِيمَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ (وَسَتْرِهِ إطْعَامُ) عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَخْ، وَكَذَا فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَوَجْهُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذِهِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ عَلَى الشَّرْعِ فَإِنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ تَعَالَى الْخَمْرَ فَحَلَفَ لَيَشْرَبَنَّهَا فَقَدْ بَالَغَ فِي الْمُكَابَرَةِ عَلَى قَصْدِ الْمُخَالَفَةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى سَلِمَ مِنْ إثْمِ ارْتِكَابَ النَّهْيِ بَقِيَ عَلَيْهِ إقْدَامُهُ عَلَى الْيَمِينِ عَلَى فِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَدَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ كَرَمًا وَفَضْلًا بِالْكَفَّارَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ مِنْ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْغَمُوسِ وَالْمُنْعَقِدَةِ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ دَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ الْمُنْعَقِدَةِ بِشَرْعِ الْكَفَّارَةِ فَبَقِيَتْ الْغَمُوسُ مَسْكُوتًا عَنْهَا فِي ذَلِكَ فَلَمْ تُشْرَعْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا دَافِعَةً سَاتِرَةً
(وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ) أَيْ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤَاخَذَةِ فِي الْأُولَى الْأُخْرَوِيَّةُ وَفِي الثَّانِيَةِ الدُّنْيَوِيَّةُ فَلَا تَكُونُ الْغَمُوسُ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّغْوِ وَالْمُنْعَقِدَةِ (بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ: لَا يُؤَاخِذُ بِكَذَا لَكِنْ) يُؤَاخِذُ (بِكَذَا عَدَمُ الْوَاسِطَةِ) أَيْ كَوْنُ الثَّانِي مُقَابِلًا لِلْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي التَّلْوِيحِ فَلَوْ كَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ فِيهِمَا الْمُؤَاخَذَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ لَزِمَ كَوْنُ الْمُؤَاخَذِ بِهِ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدًا قُلْت وَهَذَا ظَاهِرُ الْوُرُودِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ، أَمَّا لَوْ أُرِيدَ الْمُؤَاخَذَةُ مُطْلَقًا عُقُوبَةً كَانَتْ أَوْ كَفَّارَةً فَلَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ دُخُولُ الْغَمُوسِ فِي اللَّغْوِ؛ لِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ نَطَقَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِهَا وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلَا فِي الْمَعْقُودَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ لِمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي بِجَوْدَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ وَذَكَرَ مِنْهُنَّ وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَنْ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْيَمِينِ الصَّابِرَةِ أَيْ الْمَصْبُورَةِ عَلَى مَالٍ كَذِبًا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَهِيَ الْمُفْضِي بِهَا؛ لِأَنَّهَا مَصْبُورٌ عَلَيْهَا أَيْ مَحْبُوسٌ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ) الْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ (فِيهَا) أَيْ الْآيَتَيْنِ الْمُؤَاخَذَةُ (الدُّنْيَوِيَّةُ وَهِيَ) أَيْ الْغَمُوسُ عِنْدَهُ (دَاخِلَةٌ فِي الْمَعْقُودَةِ) بِنَاءً عَلَى حَمْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْقَلْبِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ
عَقَدْت عَنْ قَلْبِي بِأَنْ يَكْتُمَ الْهَوَى
(كَمَا) هِيَ دَاخِلَةٌ (فِي الْمَكْسُوبَةِ فَلَا تَعَارُضَ، وَدَفْعُهُ) أَيْ دُخُولُهَا فِي الْمَعْقُودَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ (بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَقْدِ بِغَيْرِ الْقَلْبِ) أَيْ بِأَنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنْ الْحَقِيقَةِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ رَبْطُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ رَبْطِ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِالْآخَرِ وَارْتِبَاطِ الْكَلَامِ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ إنْ كَانَ الْكَلَامُ وَاحِدًا، وَعَزْمُ الْقَلْبِ لَا يَرْتَبِطُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُكْمًا فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ الْغَمُوسُ مَعْقُودَةً حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا ثُمَّ دَفْعُهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (قَدْ يُمْنَعُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (بِأَنَّهُ) أَيْ الْعَقْدُ (أَعَمُّ) مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ الْمَعَانِي (يُسْنَدُ إلَى الْأَعْيَانِ فَيُرَادُ) بِهِ (الرَّبْطُ) لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ (وَإِلَى الْقَلْبِ فَعَزْمُهُ) أَيْ فَيُرَادُ بِهِ عَزْمُ الْقَلْبِ (وَكَثُرَ) إطْلَاقُ عَزْمِ الْقَلْبِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى (فِي اللُّغَةِ) وَفِي التَّلْوِيحِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادَهُ بِمَعْنَى رَبْطِهِ وَجَعْلِهِ ثَابِتًا عَلَيْهِ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ فِي الْفِقْهِ فَإِنَّهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْفُقَهَاءِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ بِمَعْنَى الرَّبْطِ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْأَعْيَانِ إلَّا أَنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي قَوْلٍ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِارْتِبَاطٍ بَيْنَهُمَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيفَاءِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِمَا لَهُ حُكْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِهِ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ
(بَلْ) الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ (الظَّاهِرُ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤَاخَذَةِ (فِي) الْآيَةِ (الْأُولَى) الْمُؤَاخَذَةُ (الْأُخْرَوِيَّةُ لِلْإِضَافَةِ إلَى كَسْبِ الْقَلْبِ) كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ إذْ لَا عِبْرَةَ بِالْقَصْدِ