أَيْ وَلَا يَثْبُتُ الشَّرْعُ حَتَّى أَنْظُرَ وَأَنَا لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ يَجِبْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ حَقًّا وَلَا سَبِيلَ لِلنَّبِيِّ إلَى دَفْعِهِ وَإِفْحَامُهُ بَاطِلٌ فَبَطَلَ كَوْنُهُ شَرْعِيًّا وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ شَرْعِيًّا تَعَيَّنَ كَوْنُهُ عَقْلِيًّا إذْ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا إجْمَاعًا (وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَثْبُتُ إلَى آخِرِهِ) أَيْ الْوُجُوبِ عَلَى مَا لَمْ أَنْظُرْ وَمَا لَمْ أَنْظُرْ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عَلَيَّ (بَاطِلٌ لِأَنَّهُ) أَيْ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (بِالشَّرْعِ) نَظَرَ أَوْ لَا ثَبَتَ الشَّرْعُ أَوْ لَا لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْوُجُوبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ وَإِلَّا لَوْ تَوَقَّفَ تَحَقُّقُ الْوُجُوبِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْوُجُوبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوُجُوبِ ضَرُورَةَ مُطَابِقَتِهِ إيَّاهُ وَأَيْضًا مَتَى ظَهَرَتْ الْمُعْجِزَةُ فِي نَفْسِهَا وَكَانَ صِدْقُ النَّبِيِّ فِيمَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا وَالْمَدْعُوّ مُتَمَكِّنًا مِنْ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ وَثَبَتَ وَالْمَدْعُوّ مُفْرِطٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَمَّا أَوْرَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا تَكْلِيفٌ بِالْوُجُوبِ لِلْغَافِلِ عَنْهُ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
وَأَجَابَ بِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلضَّرُورَةِ أَشَارَ إلَى بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ) وُجُوبُ النَّظَرِ قَبْلَ النَّظَرِ وَثُبُوتُ الشَّرْعِ عِنْدَهُ (تَكْلِيفُ غَافِلٍ بَعْدَ فَهْمِ مَا خُوطِبَ بِهِ) وَلَمْ يُصَدِّقْ بِهِ لِيَحْتَاجَ إلَى هَذَا الْجَوَابِ الْمَرْدُودِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْ لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ كَالصِّبْيَانِ أَوْ يَفْهَمُ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ إنَّهُ مُكَلَّفٌ كَاَلَّذِي لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ دَعْوَةُ نَبِيٍّ (وَمَا قِيلَ) أَيْ وَمَا اخْتَصَّ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَهُوَ مَا مُلَخَّصُهُ (تَصْدِيقُ مَنْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ) بِدَعْوَاهُ إيَّاهَا وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهَا (فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ) عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ التَّكَالِيفِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ (وَاجِبٌ وَإِلَّا) لَوْ لَمْ يَجِبْ تَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ (انْتَفَتْ فَائِدَةُ الْبَعْثَةِ) وَانْتِفَاءُ فَائِدَتِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا مُنْتَفٍ وَحِينَئِذٍ (فَإِمَّا) وُجُوبُ التَّصْدِيقِ (بِالشَّرْعِ فَبِنَصٍّ) أَيْ فَمُعَرِّفٍ وُجُوبَ تَصْدِيقِهِ فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ حِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَصًّا وَحِينَئِذٍ (فَوُجُوبُ تَصْدِيقِ) هَذَا الْإِخْبَارِ (الثَّانِي) الَّذِي هُوَ النَّصُّ الْمُتَوَقِّفُ وُجُوبُ تَصْدِيقِ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ (لَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ) لِئَلَّا يَلْزَمَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ وَتَقَدُّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَتَصْدِيقُهُ بِغَيْرِهِ حِينَئِذٍ (فَأَمَّا بِالْأَوَّلِ) أَيْ بِالنَّصِّ الْأَوَّلِ (فَيَدُورُ أَوْ بِثَالِثٍ) أَيْ أَوْ بِنَصٍّ ثَالِثٍ وَالثَّالِثُ بِرَابِعٍ وَهَلُمَّ جَرًّا (فَيَتَسَلْسَلُ) وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلَانِ (فَهُوَ) أَيْ وُجُوبُ تَصْدِيقِهِ فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ (بِالْعَقْلِ) وَهُوَ حَسَنٌ عَقْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا أَخَصُّ مِنْ الْحَسَنِ عَقْلًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّصْدِيقِ حَرَامًا فَيَكُونُ قَبِيحًا عَقْلًا (وَكَذَا وُجُوبُ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ) أَيْ الشَّارِعِ (لَوْ) كَانَ (بِالشَّرْعِ تَوَقَّفَ) وُجُوبُهُ (عَلَى الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ) الَّذِي هُوَ نَصٌّ ثَانٍ عَلَى ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ
(فَوُجُوبُ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ) الَّذِي هُوَ النَّصُّ الثَّانِي (إنْ كَانَ بِالْأَوَّلِ دَارَ وَإِلَّا) إنْ كَانَ بِثَالِثٍ وَالثَّالِثُ بِرَابِعٍ وَهَلُمَّ جَرًّا (تَسَلْسَلَ) وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلَانِ فَوُجُوبُ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ابْتِدَاءً إنَّمَا هُوَ بِالْعَقْلِ وَهُوَ حَسَنٌ عَقْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا أَخَصُّ مِنْ الْحُسْنِ عَقْلًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الِامْتِثَالِ حَرَامًا فَيَكُونُ قَبِيحًا فَمَا قِيلَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (فَجَوَابُهُ) كَمَا هُوَ مُخْتَصَرُ مَا فِي التَّلْوِيحِ (أَنَّ اللَّازِمَ) مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ (جَزْمُ الْعَقْلِ بِصِدْقِهِ) أَيْ النَّبِيِّ فِي أَوَّلِ إخْبَارَاتِهِ وَبِوُجُوبِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ (اسْتِنْبَاطًا مِنْ دَلِيلِهَا) أَيْ تَصْدِيقَاتِ إخْبَارَاتِهِ وَوُجُوبَاتِ امْتِثَالَاتِ أَوَامِرِهِ وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدَيْهِ (فَأَيْنَ الْوُجُوبُ عَقْلًا بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِالتَّرْكِ بَلْ يَتَوَقَّفُ) الْوُجُوبُ عَقْلًا بِهَذَا الْمَعْنَى (عَلَى نَصٍّ) وَعِبَارَةُ التَّلْوِيحِ وَأَمَّا بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ فِي الْآجِلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَصِّ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَيَحْرُمُ كَذِبُهُ أَوْ يَحْكُمُ اللَّهُ الْقَدِيرُ بِوُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُولِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ ظُهُورَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكَلُّمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا ثَبَتَ صِدْقُهُ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ انْتَهَتْ قِيلَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ابْتِدَاءُ وُجُوبِ التَّصْدِيقِ وَحُرْمَةُ الْكَذِبِ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ الْمَذْكُورِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا شَرْعًا بِنَصِّ الشَّارِعِ سَوَاءٌ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ أَوْ عَلَى دَلِيلِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا مَرَّ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِدَلِيلِهِ الْمَنْصُوصِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَا نَصَّ مِنْ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ