الْمُكَلَّفِينَ قَطْعِيٌّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ، وَأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ إحَاطَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ فَضْلًا عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ إمَّا لِكَوْنِ دَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ أَوْ لِكَوْنِ طَرِيقِ وُصُولِهِ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ غَيْرَ قَطْعِيٍّ كَالثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ، وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ثَابِتٌ بِهِمَا، وَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِهِ فَإِنَّ الْوَاقِعَاتِ الْجُزْئِيَّةِ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ وَالْعَدِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْتَهِي إلَّا بِانْتِهَاءِ دَارِ التَّكْلِيفِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ قَطْعًا فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّصْدِيقِ الْقَطْعِيِّ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ بَلْ ضَمَّ إلَيْهِ مَلَكَةَ الِاسْتِنْبَاطِ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ مُفِيدَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ النَّصُّ عَلَيْهَا فِي خُصُوصِ مَحَالِّهَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ حَيْثُ تَتَوَفَّرُ شُرُوطُ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ الْفَقِيهَ الَّذِي هُوَ الْمُجْتَهِدُ هُوَ الْقَيِّمُ بِكِلَيْهِمَا مَعْرِفَةً تَفْصِيلِيَّةً فِي الْمَنْصُوصَاتِ السَّمْعِيَّةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا، وَمَلَكَةً لِإِدْرَاكِ مَا سِوَاهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا شَرْعًا وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا ثُبُوتٌ لَا أَدْرِي فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ بَعْضٍ مَنْ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا كَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ تَعَارُضًا يُوجِبُ الْوَقْفَ أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَالِ أَوْ لِعَارِضٍ غَيْرِ هَذَيْنِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُوَقِّفَةِ لِلْمُجْتَهِدِ عَنْ الْحُكْمِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ التَّصْدِيقِ الْمَذْكُورِ بِمَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ لِيَقَعَ اسْتِيفَاءُ جُزْأَيْ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرِ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ اصْطِلَاحًا، وَإِلَّا كَانَ التَّعْرِيفُ غَيْرَ تَامٍّ ثُمَّ مِنْ التَّأَمُّلِ فِي هَذَا التَّحْقِيقِ يَنْدَفِعُ أَنْ يَخْتَلِجَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ حُصُولَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ شَرْطٌ لِلْفِقْهِ لَا شَطْرٌ.
وَيَظْهَرُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَدَخَلَ نَحْوَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ) فِي الْفِقْهِ حَتَّى تَكُونُ النِّيَّةُ وَاجِبَةً فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ مِنْ مَسَائِلِهِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ، وَمَحْمُولُهَا حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَقَدْ تَعَلَّقَ التَّصْدِيقُ لَهُ بِالْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذَا دَفْعًا لِوَهْمِ اخْتِصَاصِ الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ نَحْوَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى دُخُولِ أَمْثَالِ هَذَا مِمَّا مَوْضُوعُهُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ، وَمَحْمُولُهُ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَالْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ (وَقَدْ يُخَصُّ) الْفِقْهُ (بِظَنِّهَا) أَيْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى شَاعَ أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، وَهَذَا طَرِيقُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، وَأَتْبَاعِهِ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ فِي ضِمْنِ كَلَامٍ لَهُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ فَقَالَ: وَالْعِلْمُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ جِنْسٌ، وَمَا تَحْتَهُ مِنْ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ نَوْعٌ، وَالْعُلُومُ الْمُدَوَّنَةُ تَكُونُ ظَنِّيَّةً كَالْفِقْهِ، وَقَطْعِيَّةً كَالْكَلَامِ وَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ اهـ.
وَمُلَخَّصُ مَا قَالُوا فِي وَجْهِ هَذَا أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ إلَّا ظَنًّا لِتَوَقُّفِ إفَادَتِهَا الْيَقِينَ عَلَى نَفْيِ الِاحْتِمَالَاتِ الْعَشَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي مَوْضِعِهَا، وَنَفْيُهَا مَا ثَبَتَ إلَّا بِالْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ إنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ قَالُوا وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ فَهُوَ مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ اصْطِلَاحًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَسَيَتَعَرَّضُ الْمُصَنِّفُ لِهَذَا قَرِيبًا.
وَنَذْكُرُ مَا قِيلَ فِي وَجْهِهِ وَعَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقَالُ فِي تَعْرِيفِهِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ بَلْ الظَّنُّ بِذَلِكَ (وَعَلَى مَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّهُ التَّصْدِيقُ إلَخْ (لَيْسَ هُوَ) أَيْ الظَّنُّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادِ (شَيْئًا مِنْ الْفِقْهِ) أَيْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ لَا يَكُونَ الْفِقْهُ سِوَاهُ (وَلَا الْأَحْكَامَ الْمَظْنُونَةَ) أَيْ وَلَا تَكُونُ نَفْسُ الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ جُزْءًا مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا حَتَّى إنَّ الظَّنَّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا مَوْضُوعُهُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَحْمُولُهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَظْنُونٌ لَا يَكُونُ مِنْ مَسَائِلَ الْفِقْهِ (إلَّا بِاصْطِلَاحٍ) مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ غَيْرِ اصْطِلَاحِنَا الْمَذْكُورِ كَالِاصْطِلَاحِ بِأَنَّ الْفِقْهَ كُلَّهُ ظَنِّيٌّ فَيَكُونُ الْفِقْهُ