الفلسفية عامة دون تحقيق، وأولئك هم اللذين عناهم بقوله: " ولقد رأيت طوائف من الخاسرين شاهدتهم أيام عنفوان طلبنا، وقبل تمكن قوانا في المعارف، وأول مداخلتنا صنوفا من ذوي الآراء المختلفة، كانوا يقطعون بظنونهم الفاسدة من غير يقين أنتجه بحث موثوق به على ان الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة " (?) ولعل بيئة قرطبة والأندلس عامة - يومئذ بمعاداتها لعلوم الأوائل - هي التي حفزت حب الاستطلاع لديه فجعلته يدرس الفلسفة والمنطق، ومن ثم قوي لديه الشعور بأن العلوم الفلسفية لا تنافي الشريعة، بل ان المنطق منها خاصة يمكن أن يتخذ معيارا لتقويم الآراء الشريعية وتصحيحها، وكان اتجاهه إلى مجادلة أهل المذاهب والنحل الأخرى يفرض عليه أن يتدرع بقوة منطقية في المناظرة والجدل. وهاتان الغايتان كانتا من أول العوامل التي حدت به إلى التأليف في المنطق ليثبت عدم التنافي بينه وبين الشريعة وليعزز به موقفه العقلي إزاء الخصوم ويضع فيه القواعد الصحيحة للجدل والمناظرة ويبين فيه حيل السفسطة والتشغيب.
وظل ابن حزم على رأيه هذا يؤمن بفائدة المنطق والفلسفة وسائر علوم الأوائل؟ ماعدا التنجيم -. فهو في رسالة " مراتب العلوم " ينصح الدارس أن يبدأ بعد تعلم القراءة والكتابة وأصول النحو واللغة والشعر والفلك، بالنظر في حدود المنطق وعلم الأجناس والأنواع والأسماء المفردة والقضايا والمقدمات والقرائن والنتائج ليعرف ما البرهان وما الشغب كلها ويميزها من الأباطيل تمييزا لا يبقى معه ريب (?) . ويسأله أحدهم رأيه في أهل عصره وكيف انقسموا طائفتين: طائفة اتبعت علوم الأوائل وطائفة اتبعت علم ما جاءت به النبوة ويطلب إليه ان يبين له أيهما المصيب، فيقول في الجواب: اعلم؟ وفقنا الله وإياك لما يرضيه - أن علوم الأوائل هي الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه ارسطاطاليس والاسكندر ومن قفا قفوهم، وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه، إلى أشخاص جواهره وأعراضه، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به وتمييزه مما يظن من جهل أنه برهان وليس برهانا، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها؟ (?)