ولو أَدى ذلك إِلى أَن يحملوهم ويقسروهم على ذلك قسرًا وحملًا، ومع ذلك فهم في إِيفاء سواهم ما في ذمتهم من حق وما عليهم من تبعة يخسرون غيرهم وينقصونهم، وينالون من حقهم لديهم، لا يبرئون ذمتهم، ولا يتحللون من تبعتهم؛ إِذا قد تملكتهم الأَثرة واستولى عليهم حبهم لأَنفسهم، وهذا آية جشع نفوسهم، وتمكن الطمع منهم، وتسلط الظلم عليهم، وإِلاَّ لأنصفوا النَّاس منهم، وأَقاموا العدل فيهم، فأَعطوهم مثل ما أَخذوا منهم وهذا الوعيد بالويل والثبور وإِن جاءَ في حق البخس والنقص فيما يكال ويوزن إِلا أَن النص الكريم يتسع ويتناول غير ذلك من سائر الحقوق التي يتداولها الناس فيما بينهم.
قال القشيري: لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إِظهار العيب وإِخفائه، وفي طلب الإنصاف والانتصاف؛ ويقال: من لم يرض لأَخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة، والذي يري عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه فهو من هذه الجملة، والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أَحد لنفسه حقًّا أ. هـ.
وفي التعبير بالمطففين ما يشير إِلى أَن الذي يطمع في حق سواه إِنما يأْخذ حقيرًا وينال تافهًا قليلًا؛ فالمطفف مأْخوذ من الطفيف: وهو النزر القليل، وقال الزجاج: إِنما قيل للفاعل من هذا مطفف؛ لأَنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إِلا الشيءَ الطفيف الخفيف.
وروى ابن قاسم عن الإِمام مالك أَنه قرأَ: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فقال: لا تطفف ولا تَخْلِبْ (لا تخدع) ولكن أَرسل وصب عليه صبًّا، حتى إِذا استوفى أَرسل يدك ولا تمسك. وقال ابن الماجشون: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الطفاف وقال: "إِن البركة في رأْسه" وقال: بلغني أَن كيل فرعون كان مسحًا بالجديدة.
ولعل السر في مجيء (عَلَى) بدل (مِنْ) في قوله: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) للإِشعار والإِيذان بأَن عملهم هذا فيه إِضرار بالمكتال منهم وتحامل عليهم. وقال الفراءُ: (مِنْ) و (عَلَى) يتعاقبان في هذا الموضع؛ فإِذا قال: اكتلت عليك، فإِنه قال: أَخذت ما عليك، وإِذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك.