التفسير:
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}
هذا النداء للكافر الذي جحد بربه، أو هو عام يشمل العصاة أيضًا، أي: أي شيء خدعك وسوّل لك وجرأك على عصيان الله والمخالفة عن أمره، وقد رباك بنعمه ورعاك بكرمه في جميع أطوارك ومختلف أحوالك، فجعلك خليفة في أرضه، وميزك بالعقل والتكليف وحمّلك الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجيال من حملها، وسخَّر لك ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه ثم كان منك أن أعمتك النعمة وشغلتك عن المنعم حتى جحدته وكذبت رسوله، والأجدر بك أن تقابل الإحسان بالطاعة، والنعم بالشكر، فالغرور أمارة الحمق وآية الجهل، روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" فقال: "غره الجهل" وقاله عمر - رضي الله عنه - أيضًا وقرأ: "إنه كان ظلومًا جهولًا".
(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ): هذه صفات مقررة للربوبية مبينة وموضحة لكرم الله على الإنسان، مشيرة إلى أن ما كذبوا به من البعث والجزاء هو حق ثابت؛ لأن من قدر على الخلق بدءًا كان أَقدر عليه إعادة، والتسوية: جعل الأعضاء سليمة سويّة معدّة لقيامها بمهامها وأدائها لمنافعها على وفق حكمته - تعالى - ومشيئته. قال ذو النون: سواك، أي: سخّر لك المكونات أجمع، وما جعلك مُسَخَّرًا لشيء منها. ثم أنطلق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل، وروحك بالمعرفة، وسرك بالإيمان، وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا (فَعَدَلَكَ) أي: فعدل أعضاءك ببعضها حتى اعتدلت وتساوت من غير تفاوت، فلم يجعل إحدى اليدين أو الرجلين أطوال، ولا إحدى العينين أو الأُذنين أو المنخرين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، بل لقد تم التناسق والتناسب بينها في كمال إبداع، وعظيم إِحكام، أو صرفك عن خلقة غير ملائمة لك إلى خلقة مستوية مستقيمة لا منكسة كالبهائم، وجعلك تتناول طعامك بيدك، وأكرمك بأمور بأُمور كثيرة