والمعنى: الله الذي تقدم بيان صفاته الجليلة، هو الذي أنزل عليك - يا محمد - القرآن فيه آيات محكمات: أي واضحة الدلالة على معانيها.
وقد وصف الله هذه الآيات المحكمات بأنها: أُم الكتاب. أي مرجع أحكامه، وأصل معانيه. وسنوضح ذلك في الكلام على المتشابهات.
(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ):
أي وفيه آيات أُخرى متشابهات، أي غير واضحة الدلالة على معانيها بنفسها. فهذه ترجع - في أحكامها ومعانيها - إلى ما تقرر في المحكمات التي جعلت أصلا ومرجعًا لأحكام القرآن ومعانيه المتشابهة. فأطلق عليها: أُم الكتاب، من أجل ذلك. فكما أن الولد يرجع إلى منبته وأصله وهي أُمه - فكذلك المتشابهات، ترجع إلى المحكمات، فهي أصلها وأُمها ومآلها.
ومن ذلك قوله تعالى: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ" (?)، وقوله: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (?)، فتُحمل الأولى على معنى: لا تحيط به الأبصار، وتُحمل الثانية على معنى أنها تنظر إليه من غير إحاطة .. برَدِّها إلى المحكم وهو قوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (?)، فإنها تقتضي أن النظر إليه - سبحانه - لا يصح أن يكون فيه إحاطة به، حتى لا يماثل مخلوقاته في ذلك، وليتفق هذا التأويل مع نفي إدراكه الذي اشتملت عليه الآية الأولى. وهكذا كل ما يكون متشابهًا في القرآن، يحمل على محكمه.
قال الزمخشري: فإن قلت: فَهَلَّا كان القرآن كله محكمًا؟ قلت: لو كان كله محكمًا لتعلق الناس به، لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال. ولو فعلوا ذلك، لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به (?). ولما في التشابه من الابتلاء، والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعاب القرائح - في استخراج معانيه ورده إلى المحكم - من الفوائد الجليلة، والعلوم الجمة، ونيل الدرجات عند الله. ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في