والمعنى: وما خلقت الجن والإنس لشيء يعود عليّ بالنفع، وإنما خلقتهم لتكون غايتهم العبادة (والعبادة غاية التذلل) أي: خلقتهم مهيئين صالحين للعبادة حيث ركبت فيهم عقولًا وجعلت لهم حواس يدركون بها الطاعة والمعصية حتى لا يكون للعصاة حجة على الله.
وقال ابن جريج ومجاهد: (إلا ليعبدون) أي: ليعرفونى، وهو مجاز مرسل من إطلاق اسم المسبب على السبب، ولعلَّ السِّرَّ فيه: التنبيه على أَن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة، قيل: وهو حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم - عز وجل - لم يعرف وجوده وتوحيده - سبحانه وتعالى - وهذا إشارة إلى ما صححوه عن رسول الله فيما رواه عن ربه: "كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أَن أُعرف فخلقت الخلق لأُعرف".
قال الآلوسي: والذي ينساق إليه الذِّهن: أَن الحصر الوارد في الآية حصر إضافي، أي: خلقهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام؛ أخذا من تعقيب ذلك بقوله تعالى: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ).
57 - (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ):
هذه الآية الكريمة لبيان أَن شأنه - تعالى - مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم؛ لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معاشهم وأرزاقهم أو للقيام على خدمتهم ورعايتهم ففيها نفى أَن يكون ملكه إياهم لذلك، فكأنه - سبحانه وتعالى - قال: ما أريد أن أستعين بهم كما يستعن ملَّاك العبيد بعبيدهم، وما أريد منهم تحصيل رزق؛ فأنا الرزاق الغنى عن العالمين وما أريد أَن يطعمونى؛ فأنا أطعم ولا أطعم، غنى عنهم وعن مُرافقتهم، فليشتغلوا بما ينفعهم ويسعدهم وما خلقوا لأجله بن عبادتى وطاعتى والخضوع لي.
وفي الآية الكريمة لطائف:
الأولى: أنّه - سبحانه وتعالى - كرر نفى الإرادتين؛ لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب؛ لأنه غنى، ولكن يطلب قضاة حوائجه من حفظ المال وإحضار الطَّعام، فنفى الإرادة الأولى لا يستلزم نفى الإرادة الثانية؛ فكرر النفى على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك.