الوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهات شتى تدخل في دين الله، وما ظنه بعض المسلمين كعمر - رضى الله عنه - أنه دنيّة ونقيصة وذل في دينهم ما كان إلاَّ عزة ومنعة، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير - وهو رجل من قريش قد أسلم - فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به، وفي الطريق خدع أبو بصير أحد الرجلين وأخذ سيفه وقتله به، وفرّ الآخر إلى المدينة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قتل - والله - صاحبى وإني لمقتول، فجاءه أبو بصير فقال: يا رسول الله قد - والله - أوفى اللهُ ذمتك وقد رددتنى إليهم، ثم نجاني الله - تعالى - منهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ويل أمِّه مِسْعر (?) حرب لو كان معه أحد) فلما سمع أبو بصير ذلك عرف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف (?) البحر، ولحق به - هربا من قريش - أبو جندل ابن سهيل بن عمرو وكان قد جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلما في الحديببة بعد الصلح، فطلب أبوه سهيل بن عمرو أن يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه إنفادًا للعهد، ففعل الرسول ذلك ودعا لأبي جندل أن يجعلى الله له مخرجًا.
ولحق بأبي بصير وبأبي جندل من كان يسلم من قريش، حتى اجتمعت منهم جماعة فما يسمعون بِعيرٍ خرجت من قريش إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم جزاء ما أصاب المسلمين على أيديهم منه القتل والتعذيب وأخذ الأموال ظلمًا، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم، وقالوا له: اضممهم إليك حتى نأْمن، ففعل - صلى الله عليه وسلم - وأجابهم إلى ما طلبوا.
ومما تجدر الإشارة إليه والتنويه به ما حدث بعد فراغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إتمام عقد الحديبية أنه قال لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا) فما قام رجل منهم حتى قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل - صلى الله عليه وسلم - على زوجه السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - فذكر لها ما لقي من الناس، قالت له: يا نبي الله أتحب ذلك؟