وذكر الله في هذه السورة ما لم يذكره في سورة "الصَّافَّات" ذكر قِصَّة داود ذي القوَّة في الدين والدُّنيا، الأَوَّاب الذي ذَلَّل الله الجبال تسبِّح معه عند إِشراق الشمس وآخر النهار، وذلَّل له الطَّيرْ تُرَجِّعُ معه التسبيح، وقَوَّى الله ملكه وآتاه النُّبوة والفضاء في الخصومات، ثم تحدَّثت السورة عن خبر الخصم الذين تَسوَّرُوا المحراب على داود، وقضى بينهم دون تثبُّت ومراجعة لأَقوال الخصم الآخر حتى يتَّضِح له وجه الحق جليًّا، وعلم داود أن الله امتحنه بهذه القصة، فاستغفر رَبَّه، وخَرَّ راكعًا وأَناب، فغفر الله له ذلك، وله عنده زلفى وحسن مآب، ووَصَّى الله نبيَّه داود - وهي وصيَّة من الله كذلك لكل الولاة، والحكام - أن يحكموا بين الناس بالحقِّ المنزَّل من عنده، ولا يعدلوا عن ذلك فيضلُّوا عن سبيل الله؛ لأَنَّ العدل أَساس الملك، وقِوام الأمم، وأَمان الشعوب، ولقد تَوعَّد الله من ضلَّ عن سبيله، وتناسى يوم الحساب بالوعيد الشديد، والعذاب الأَليم.
ثم بينت السورة أَنَّ مِن حكمة الله وعدله ألاَّ يُسوَّى بين المؤمنين والكافرين، وذكرت السورة أَن الله وهب لداود سليمان الكثير العبادة والإنابة، ومن أَخباره أَنه عُرض عليه بالعَشِيِّ الخيلُ فقال: إِنِّي آثرت حب الخير - أَي: الخيل - لأَنَّها عدَّة الخير، وهو الجهاد في سبيل الله، وظلَّ مشغولًا بعرضها عليه حتى غابت عن ناظريه، ثم أمر بردها عليه ليتعرف أَحوالها وأَخذ يمسح سوقها وأَعناقها رفقًا بها وحبًّا لها، وحدبًا عليها, ولقد امتحن الله سليمان لئلا يغترّ بأبَّهة الملك وعظمته فأَلقاه على كرسيِّه جسدًا بلا قُوَّة يستطيع بها تدبير الملك، فتنبَّه لهذا الامتحان فرجع إلى الله وأناب، وطلب من الله ملكًا لا ينبغي لأَحد من بعده، فسخَّر له الوهَّاب الرِّياح تجري بأَمره، كما سخَّر الشياطين وجعلها طوع مشيئته.
وعقَّبت السورة على ذلك ببيان ما أَعدَّه الله للطائعين والمتقين من ثواب وحسن مآب، وللعاصين والطاغين من عذاب وعقاب وشر مآب.
ثم صوَّرت السورة تخاصم أَهل النار وتحسرهم حينما يقولون: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}.