والمعنى: أقَعَد هؤُلاءِ المشركون في مساكنهم، ولم يسيروا في الأرض، ولم يتنقلوا بين ربوعها فينظروا نظر اعتبار وتأَمل بما يشاهدونه في مسايرهم، كيف كان عاقبة المكذبين من قبلهم من الأُمم السابقة من آثار الدمار، وعلامات الهلاك والخراب عقوبة لهم على معارضة أَنبيائهم وتكذيبهم، وقد كانت هذه الأُمم أَشد منهم قوة، وأَطول أَعمارًا، وأَوسع نعمة، فلم تغن عنهم قوة، ولم يمنعهم طول أَعمار، ولم تدفع عنهم نعمهم من عذاب الله شيئًا، وما كان الله ليمنعه عن مراده أَي شيءٍ في السموات ولا في الأَرض، إنه - جلت قدرته - عليم لا يغيب عن علمه شيءٌ، قدير لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب.
45 - {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}:
كان المشركون من شدة عنادهم، وفساد عقائدهم يتعجلون العذاب الذي يتوعدهم الله به، فأخبر الله - تعالى - في هذه الآية وفي مثيلاتها من الآيات التي تعرض لذكر العذاب وتتوعد به، أَن للعذاب أَجلا مضروبا هو يوم القيامة.
والمعنى: ولو يؤاخذ الله الناس جميعًا، ويعاقبهم بما كسبوا من السيئات، ويعجل لهم العذاب في الدنيا كما فعل بأَسلافهم، ما ترك ولا أَبقى على ظهر الأَرض من دابة تدب، أو نسمة تدرج من إنسان وجن وحيوان، قال - تعالى -: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (?).
قال ابن مسعود: "كاد الجُعْل أَن يعذب في جحره بذنب ابن آدم" فالمراد بالدابة على هذا عموم المخلوقات، وقيل: إن المراد بالدابة المكلفون من الإِنس، ويؤَيده ذكر (الناس) وقوله - تعالى -: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} بضمير العقلاءِ العائد إِلى الناس.
ويوم القيامة هو الأَجل المضروب لبقاءِ نوعهم. {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} أَي: فإذا حل يوم القيامة فإن الله - سبحانه وتعالى - بصير بأحوالهم فيجازيهم عند ذلك بأعمالهم، إن شرا فشر، وإن خيرا فخير، ولا يظلم ربك أَحدا.