النحل - وهل كان هذا الإلهام في اليقظة أم كان في المنام؟ والذي يظهر لنا أنه في اليقظة، لأن الذي يكون في النوم يعبر عنه في عرف القرآن بالرؤْيا، كما في قوله تعالى -: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وقد كان هذا الإلهام قويا مقنعًا، فلهذا لم تَتَرَدَّد في تنفيذه، ولهذا شبهه الله بما يوحى للأَنبياء، في قوة الاقتناع به، والطمأْنينة له.
والمعنى على هذا - ولقد ألهمنا أُمك في شأْنك تدبيرًا اقتنعت به تمامًا، لأنه كان مؤكدًا في نفسها تأْكيد ما يوحى إلى الأنبياء، فإن الأرواح قد تصل من الصفاء والشفافية إِلى ما يجعلها تتحقق من صدق إلهامها كأنها تشاهده على الحقيقة، وعن ذلك أن سارية كان قائدا في إحدى المعارك النائية، فأَحسّ عمر بن الخطاب بأَنه في مأزق حرج، فناداه وهو على منبره بالمدينة - يا سارية الجبل، فسمعه سارية فلجأَ برُمَاته إِلي الجبل، فانتصر على عدوه، ولما رجع من المعركة حدث الناس بذلك وفي مثل هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنْ أمَّتى مُحَدِّثِينَ".
39 - {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ... } الآية.
هذه الآية مفسّرة لما أَوحاه الله إلى أمِّ موسى، وكان قد ولد في السنة التي كان فرعون يقتل فيها مواليد بني إسرائيل من الذكور، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة البقرة مخاطبا بني إسرائيل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (?).
وقيل في سبب ذلك: إن فرعون خاف أَن يذهب ملكه على يد مولود من بني إِسرائيل، يولد في هذا العام كما رآه في منامه، فأمر بقتل كل ذكر يولد منهم فيه - {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ولهذا لم يُقْدِر فرعونَ تدبيرُه في دفع ما قدره الله عليه، إذ لا يُغنى حَذرٌ مِنْ قَدرٍ.
والمعنى: إذ أَوحينا إلى أُمك يا موسى أَن ضعيه في صندوق محكم الصنع بحيث لا يدخله ماءٌ، فاطرحيه في البحر - وهو النِّيل - يلقيه البحر بساحل فرعون.
ولما كان إلقاءُ البحر للتابوت بالساحل أمرا واجب الوقوع، لتعلق إرادة الله به، جُعل البحر في النص الكريم كأنه مأْمور بذلك (?).