وإِليك أَيها القارئُ مثلين اثنين بما صنعه الكفرة الفجرة، في مُؤْمنى الأمم السابقة وفي المستضعفين من المؤمنين في هذه الأمة المحمدية، فثبتهم الله ولم يضعف لهم إِيمان.
(أ) أخرج البخاري بسنده في أعلام النبوّة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قَدْ كَانَ من قَبلِكُم يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحفَرُ لَهُ في الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بالْمِنْشَار فَيُوضَع علَى رأسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفين، وَيُمشَطُ بأمشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصْرفُهُ ذَلِكَ عن دِينِه".
(ب) بلغ من تعنُّت قريش ووقوفهم في سبيل الدعوة المحمدية أَن أذاهم لم يكن مقصورًا على خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهم، بل تعداه إلى المستضعفين والأرقاءِ الذين لم يكن لهم من يحتمون به أو يعتزون بعصبيته، فقد عذب أهل مكة الكثير منهم ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم من بعد إيمانهم كفارا فلم يفلحوا. ومن هؤلاء بلال بن رباح الحبشى، وعمار بن ياسر وأبوه وأمه، أَوقع بهم المشركون من العذاب ما لا طاقة لأحد به! وقصصُ تعذيب هؤلاءَ وغيرهم مشهورة في السيرة النبوية وفي التاريخ ... وكلها نماذج من الطراز الأول في قوة الإيمان، والثبات على الحق الذي ثبَّتهم الله عليه في هذه الحياة الدنيا.
(وَفِي الآخَرَةِ): يثبتهم الله بعد الموت، فلا يتلعثمون إذا سئلوا في قبورهم، أَو بين يدي ربهم حينما يُسألون عن معتقدهم، ولا تدهشهم أهوال القيامة، والقبر هو أول منزل من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أَيسر منه، ومن لم ينج منه فما بعده أَشد منه ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن عثمان رضي الله عنه، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: (الْمُسلِمُ إذَا سُئِل في القَبْر يَشْهَدُ أن لَّا إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية. وعن أَنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى إلله عليه وسلم: "إن العَبْدَ إذَا وُضِعَ في قَبْرهِ وَتوَلى عنه أصحابه، وإنه لَيسمَع قَرع نِعَالِهم إذَا انصَرَفوا -أَتَاه مَلَكَانِ فيُقْعِدَانِه فيَقولَانَ. لَه: مَا كُنْتَ تَقُول- في هَذَا الرجل. (محمد صلى الله عليه وسلم) فأما المؤمِنَ فَيَقُول: أشْهد أنه عَبْد الله وَرسُولُه.