والجمهور، على أَن الوزن حقيقي. ويكون لصحف الأعمال بميزان له لسانٌ وكفتان: ينظر إِليه الخلائق، تأْكيدا للحجة، وإِظهارًا للنصفة، وقطعا للمعذرة .. كما يسأَلهم الله عن أَعمالهم، فتعترف بها ألسنتُهم، وتشهد بها أَيديهم وأرجلهم وجلودهم - ويشهد عليهم كذلك: الأنبياءُ والملائكة وسائر الأَشهاد.
ومما يدل على صحة الرأْى الأَول، ما أَخرجه مسلم في صحيحه بسنده قال:
قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى (?)؟ قال سمعته يقول: "يُدْنَى المؤْمِنُ مِنْ ربِّه يَوْمَ القِيَامة، حتى يضَعَ عليه كنَفَه فيُقَررُه بذنوبه"، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربِّ أعرف. قال فإن قد سترتها عليك في الدنيا، وإنى أغفرها لك اليوم، فَيُعطَى صحيفةَ حسناتِهِ ... وأما الكفار والمنافقون، فيناديهم على رءُوس الخلائق: هؤُلاءِ الذين كَذَبُوا على الله. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} كما أن الكتب ليست هي الأعمال، فكيف يبين وزنها حقيقة هذه الأعمال من حسنات وسيئات؟
والاحتياط يقتضي التسليم بالوزن. أَما حقيقة هذا الوزن، فيُترك عليها إلى الله تعالى.
فالمعنى: وقضاءُ الله بين عباده في يوم القيامة وتقديرُه لأَعمالهم هو القضاءُ والتقديرُ الحقُّ، فَمَنْ رجحت أعمالُه، وكان لها وزنٌ وقيمةٌ لصلاحها، فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العقاب، والحصول على جزيل الثواب.
والآية الكريمة قد حصرت الفلاح في الذين رجحت حسناتهم على سيئاتهم، بقولها: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
9 - {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}:
أي وَمَن خفّت أعماله، بأَن كانت لا وزن لها ولا قيمة - لكونها فاسدة - فأُولئك الذين خسروا أنفسهم؛ إذ غيَّروا فطرة الله التي فطرهم عليها كما فطر الناس. وهى فطرة حبِّ الحق، وجلب النفع، ودفع الضر. وقد أَبوا ذلك لأنفسهم، فكفروا، فاستحقوا العذاب، بسبب كونهم مستمرين على تكذيبهم بآيات الله، وَظلمِهم بجحدهم لها.
وصدق الله إذ يقول: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (?).