دخلوا بلدة قهرا، خرّبوها ودمّروا ديارها وأموالها، وأذلّوا أعزّة أهلها بالقتل والأسر، ويفعلون ذلك وأمثاله، وهي عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير. وهذا من بلقيس تقدير للمخاطر، وتحذير من محاربة سليمان، ثم رجّحت اللجوء إلى الوسائل الودّية، وإلى المصالحة والمفاوضة، فقالت: إني أقوم بهذه التجربة، وهي إرسال هدية لسليمان، لاختباره أهو نبي أم ملك؟ ثم أنظر في جوابه بعدئذ، فلعله يقبل ذلك منا، ويكفّ عنا، أو يفرض علينا أتاوة مالية نرسلها له في كل عام، فنأمن جانبه. وكانت الهدية عظيمة مشتملة على ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك من الغلمان والجواري بزيّ واحد، لتجرّبه في التفريق بينهم.
فلما وصلت الهدية إلى سليمان عليه السّلام، لم ينظر إليها، وأعرض عنها، وقال منكرا عليهم: أتمدّونني بمال؟ ولا حاجة لي به، ولا أقبله بدلا من بقائكم على الشّرك وعبادة الكواكب.
إن الله أعطاني خيرا كثيرا مما أعطاكم، وهو النّبوة، والملك الواسع العريض، والمال الوفير، فلا حاجة لي بهديتكم، وهذا شأن سموّ النّبوة، وترفّع النّبي عن أعراض الدنيا الحقيرة. وإنما أنتم الذين تنقادون لمؤثرات الدنيا وزخارفها، وتنقادون للهدايا وسحرها، وتفرحون بها، ولست طالبا للدنيا الزائلة، وإنما أطالبكم بتوحيد الله والإقرار بوجوده، وترك عبادة الشمس، ولا أقبل منكم إلا الإسلام الذي هو الخضوع لله تعالى، أو الاحتكام إلى الحرب والقتال.
ارجع أيها المبعوث إليهم بهديتهم، فإننا سنأتينّهم بجنود أشدّاء لا طاقة لهم بقتالهم، ولنخرجنّهم من بلدتهم أذلّة، وهم مهانون مدحورون، إن لم يأتوا مسلمين منقادين لله ربّ العالمين.