أى: قال لها جبريل ليدخل السكون والاطمئنان على قلبها: إنما أنا يا مريم رسول ربك الذي استعذت به، والتجأت إليه، فلا تخافي ولا تجزعي وقد أرسلنى- سبحانه- إليك، لأهب لك بإذنه وقدرته غلاما زكيا، أى: ولدا طاهرا من الذنوب والمعاصي، كثير الخير والبركات.
ونسب الهبة لنفسه، لكونه سببا فيها. وقرأ نافع وأبو عمرو: ليهب لك بالياء المفتوحة بعد اللام أى: ليهب لك ربك غلاما زكيا.
وهنا تزداد حيرة مريم، ويشتد عجبها فتقول: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا.
أى: قالت على سبيل التعجب مما سمعته: كيف يكون لي غلام، والحال أنى لم يمسني بشر من الرجال عن طريق الزواج الذي أحله الله- تعالى-، ولم أك في يوم من الأيام بغيا، أى: فاجرة تبغى الرجال. أو يبغونها للزنا بها. يقال: بغت المرأة تبغى إذا فجرت وتجاوزت حدود الشرف والعفاف.
قال صاحب الكشاف: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه. كقوله- تعالى- مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ والزنا ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبغي: الفاجرة التي تبغى الرجال ... » (?) .
وعلى هذا الرأى الذي ذهب إليه صاحب الكشاف، يكون ما حكاه القرآن عن مريم من قولها: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ... المقصود به النكاح الحلال.
ويرى آخرون أن المقصود به ما يشمل الحلال والحرام، أى: ولم يمسسني بشر كائنا من كان لا بنكاح ولا بزنى، ويكون قوله: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا من باب التخصيص بعد التعميم، ويؤيد هذا الرأى قوله- تعالى-: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ. قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (?) .
ويؤيده أيضا أن لفظ بَشَرٌ نكرة في سياق النفي فيعم كل بشر سواء أكان زوجا أم غير زوج.
قال القرطبي: قوله: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أى: زانية. وذكرت هذا تأكيدا لأن قولها