الدعوى تحقق جنونك على أتم وجه. وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده، أنت مجنون (?) .
فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد حكتا ألوانا من سوء أدبهم، منها: مخاطبتهم له صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الدال على التهكم والاستخفاف، حيث قالوا: «يا أيها الذي نزل عليه الذكر» ، مع أنهم لا يقرون بنزول شيء عليه.
ووصفهم له بالجنون، وهو صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلا، وأفضلهم فكرا..
وشكهم في صدقه، حيث طلبوا منه- على سبيل التعنت- أن يحضر معه الملائكة ليعاضدوه في دعواه كما قال تعالى في آيات أخرى منها قوله- تعالى- وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ... (?) .
وقوله- تعالى-: ... لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (?) .
وقد رد الله- تعالى- عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم فقال: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ.
وقرأ الجمهور ما تنزل- بفتح التاء والزاى على أن أصله تتنزل- ورفع الملائكة على الفاعلية.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ما تنزل- بضم التاء وفتح الزاى على البناء للمجهول- ورفع الملائكة على أنه نائب فاعل.
وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم ما نُنَزِّلُ- بنون في أوله وكسر الزاى- ونصب الملائكة على المفعولية والباء في قوله إِلَّا بِالْحَقِّ للملابسة.
أى: ما ننزل الملائكة إلا تنزيلا ملتبسا بالحق، أى: بالوجه الذي تقتضيه حكمتنا وجرت به سنتنا، كأن ننزلهم لإهلاك الظالمين، أو لتبليغ وحينا إلى رسلنا، أو لغير ذلك من التكاليف التي نريدها ونقدرها، والتي ليس منها ما اقترحه المشركون على رسولنا صلى الله عليه وسلم من قولهم لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ولذا اقتضت حكمتنا ورحمتنا عدم إجابة مقترحاتهم.