قال بعض العلماء مؤيدا ما ذهب أليه الجمهور قوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أى فلما أخذتنى وافيا بالرفع إلى السماء حيا، إنجاء لي مما دبروه من قتلى، من التوفي وهو أخذ الشيء وافيا أى كاملا.
وقد جاء التوفي بهذا المعنى في قوله- تعالى- يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا....
ولا يصح أن يحمل التوفي على الإماتة، لأن إماتة عيسى في وقت حصار أعدائه له ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها، ورفعه إلى السماء جثة هامدة سخف من القول، وقد نزه الله السماء أن تكون قبرا لجثث الموتى، وإن كان الرفع بالروح فقط، فأى مزية لعيسى في ذلك على سائر الأنبياء، والسماء مستقر أرواحهم الطاهرة فالحق أنه- عليه السلام- رفع إلى السماء حيا بجسده وروحه وقد جعله الله آية، والله على كل شيء قدير» (?) .
وقال الشيخ القاسمى: وقد دلت الآية الكريمة على أن الأنبياء بعد استيفاء أجلهم الدنيوي، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا» أى غير مختونين- ثم قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ألا وإنه يجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابى فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح، وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، فيقال لي: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (?) .
وبعد أن أجاب عيسى على سؤال ربه تلك الإجابة الموفقة. فوض الأمر إليه- سبحانه- في شأن قومه. فقال- كما حكى القرآن عنه إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أى: إن تعذب- يا إلهى- قومي، فإنك تعذب عبادك الذين خلقتهم بقدرتك، والذين تملكهم ملكا تاما، ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بمملوكه. وإن تغفر لهم، وتستر سيئاتهم وتصفح عنهم فذلك إليك وحدك، لأن صفحك عمن تشاء من عبادك هو صفح القوى القاهر الغالب الذي لا يعجزه شيء. والذي يضع الأمور في مواضعها بمقتضى حكمته السامية وقد قال بعض المفسرين هنا: كيف جاز لعيسى أن يقول: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ والله- تعالى- لا يغفر أن يشرك به؟