فخرج من المكتل إلى البحر، لما كان هناك ما يدعو إلى العجب، لكن العجب أن يكون الحوت مشويًا فتدب فيه الحياة، وينطلق إلى البحر في قوة.
وهذا لا يتعارض مع ما ورد من أن الحوت كان ميتًا؛ لأنه تم شواؤه وهو ميت، بل إن الحوت حين انطلق إلى الماء، فعل ما لم يكن معهودًا في جريان الحيتان في الماء، فقد شق في البحر سربًا، أي: طريقًا كأنه السرداب في الجبل، إذ أمسك الله عنه كما جاء في الحديث جِرْيَة الماء في البحر، حتى كأن أثره في حجر، وإنما قفز الحوت إلى البحر وموسى نائم، أما يوشع فكان يقظان.
وما إن استيقظ موسى حتى واصل رحلته، فكان على عجلة من أمره، مما جعل يوشع ينسى أن يخبره بأن الحوت خرج من المكتل إلى البحر، وما إن جاوزا المكان حتى أحسا بالجوع، فقال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (الكهف: 62) ولم يشعرا بهذا النصب وبتعب المسير إلا بعد أن تجاوزا هذا المكان، فكان هذا أيضًا آية من آيات الله.
قال يوشع لموسى ما ذكره الله -عز وجل-: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} (الكهف: 63) فقد ذكر يوشع لموسى ما كان من أمر الحوت، وما أظهر الله فيه من عظيم آياته، إذ أحياه وكان ميتًا مشويًا، وانطلق في الماء، وإذا بالماء يتجمد حتى كأنه الصخور، والحوت قد شق له فيه طريقًا يبسًا، فكان ذلك مثار العجب، ولا عجب من قدرة الله، فسُر موسى بذلك، وعلم أنه قد قارب على وصول مبتغاه، فقال لفتاه: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف: 64) أي: فرجعا يقصان أثرهما حتى وصلا إلى المكان الذي فقدا فيه حوتهما {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف: 65).