فاحتج سبحانه كما مضى على أهون أهل النار عذابًا بذلك الميثاق وما تبعه من الفطرة، كما قال الحسن البصري حين روى عن الأسود بن سريع مرفوعًا: (ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة. قال الحسن: ولقد قال الله ذلك في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} - إلى قوله - {الْمُبْطِلُونَ}) (?).
فخلق الله الخلق في ظلمة، وهي ظلمة الطباع والجهل والأهواء والخضوع للغرائز والشهوات، ثم ألقى عليهم من نوره: نور الوحي ونور السنة، نور النبوة ونور الفطرة، نور الميثاق ونور الرسالات، ثم إن الشياطين قد استخفوهم من بعد ذلك فحملوهم على اجتراح الموبقات والسيئات.
خَبَرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه مسلم عن عياض: [قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا] (?).
وفي التنزيل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].
قال ابن القيم رحمه الله: (فأولياؤهم يعيدونهم إلى ما خلقوا فيه من ظلمة طبائعهم وجهلهم وأهوائهم، وكلما أشرق لهم نور النبوة والوحي وكادوا أن يدخلوا فيه منعهم أولياؤهم منه وصدوهم، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات) (?).
وخلاصة القول: لقد استخرج الله ذرية آدم من صلبه، وميز بعلمه بين أهل النار وأهل الجنة، وقد أشهدهم أمام أبيهم على ربوبيته المقتضية إفراده بالألوهية، فأقروا على توحيده، وبقيت الفطرة تشهد بذلك، وإنما قامت الحجة عليهم بالرسل والفطرة معًا، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.