وغايةُ هذا البيانِ فهمُ كلام الله، فما خرجَ عن حَدِّ فَهْمِ كلامِه سبحانَهُ فإنه زائدٌ عن معنى البيانِ؛ لأنَّ الغايةَ من التَّفسيرِ معرفةُ المعنى الذي أراده الله من كلامِهِ، فما تَحْصُلُ به المعرفةُ فإنه بيانٌ وتفسيرٌ، وما عدا ذلك، فإنه توسُّعٌ حاصلٌ بعدَ هذا الفَهمِ والبيانِ.
وإذا تأمَّلتَ كثيراً من النِّكاتِ البلاغيَّةِ، والمُلَحِ التَّفسيريَّةِ، واللَّطائفِ اللُّغويَّةِ، وجدتَها تدخلُ في ما وراءَ البيانِ والفهمِ، فهي ليست من صُلْبِ التَّفسيرِ؛ لأن البيانَ لا يتوقفُ عليها، أمَّا إذا توقَّفَ البيانُ عليها فهي من التَّفسيرِ.
وإذا كان ذلك هو المنطلق في تعريفِ التَّفسيرِ، فإنَّ البيانَ قد يتحقَّقُ بمعرفةِ اللَّفظةِ الغريبةِ في الآيةِ، أو بمعرفةِ قصتِها وسببِ نزولِها، أو بمعرفةِ مكانِ نزولِها وفيمن نزلتْ، أو بمعرفةِ ما فيها من النَّسخِ بمصطلحِه العامِّ؛ كبيانِ مجملٍ، وتخصيصِ عامٍ، وتَقْيِيدِ مطلقٍ، ورفعِ حكمٍ شرعيٍّ، وغيرِها مما يعتريه إزالةٌ ورفعٌ.
والمقصودُ: أنَّ ما يقعُ به بيانٌ عن معنى الآيةِ، فإنه تفسيرٌ للقرآنِ، ودونك هذه الأمثلةُ، إذ بالمثالِ يتبيَّنُ المقالُ.
1 - في قولِه تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 38].
إن أوَّلَ ما تحتاجُ إليه لِمعرفةِ تفسيرِ الآيةِ، معرفةُ لفظِ «النَّسِيء» في اللُّغةِ. فإذا عرفتَ أنَّ النَّسِيءَ: التأخيرُ، صارَ معنى الآيةِ: إنما التَّأخيرُ زيادةٌ في الكفرِ.
ولكن أيُّ تأخيرٍ هو المرادُ، وهذا يعني أنَّه لم يتمَّ البيانُ بمعرفةِ المدلولِ اللُّغويِّ وحدَه، لاحتياجِك إلى تحديدِ النَّسِيءِ المرادِ في الآيةِ، فإذا تَكَشَّفتْ لك قصةُ الآيةِ بما رُوي عن حبرِ الأمَّةِ ابن عباسٍ (ت:68): أنَّ جُنَادَةَ بنَ عوفٍ بنَ أميةَ الكناني كان يوافي الموسمَ كلَّ عامٍ ـ وكانَ يُكْنَى أبا