ولا تنفع فى القوم هذه المثلات، ولا تقوم لهم منها شواهد العبر والعظات، وإذا الذين رحمهم الله منهم من هذه المحنة ونجاه من القتل لا يزالون فى ريبة من ربّهم، وفى شك من معبودهم، فيجيئون إلى موسى بهذا الطلب العجيب: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» وهم بهذا يكشفون عن بلادة حسّهم، وطفولة مداركهم، بحيث لا يتعاملون مع الحياة إلا بما يلامس حواسّهم، ويجبه أبصارهم، أمّا ما يستشفه الوجدان، ويتمثله الحدس والخيال فليس لهم حظ منه، ولا تجاوب معه.. إنهم لم يستطيعوا أن يروا الله فى آياته التي تبدو فى ظاهر الموجودات وباطنها، أو أن يشهدوه فيما يجريه الله تعالى على يد موسى عليه السلام، من معجزات ناطقة بقدرة الله، وبسلطانه المتمكن فى كل ذرة من ذرات الوجود، حتى لقد آمن سحرة فرعون بين يدى موسى من غير دعوة إلى الإيمان، وهم منه فى وجه خصومة بادية وعداوة متحدية، بل لقد اضطر فرعون إزاء سطوة المعجزة أن يقول: «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل» .. ولكن القوم رجال فى مساليخ أطفال، لا يكادون يخطون على طريق الهدى خطوة أو بضع خطوات حتى يتعثروا ويسقطوا فى التراب والوحل! وكان من إعناتهم لنبيهم موسى، وإلحاحهم عليه، فى ثرثرة كثرثرة الصبيان، ولهفة كلهفة الأطفال- أن طلب موسى من ربّه أن يراه حتى يراه معه هؤلاء الأغبياء، كما جاء فى قوله تعالى على لسان موسى:
«وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، قالَ لَنْ تَرانِي، وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا، وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً» (143: الأعراف)